موضوع: حول الصلاة لأجل الراقدين الإثنين مايو 24, 2010 9:06 am
من كتاب "الأرثوذكسية والبروتستانتية" >[color=navy]للأرشمندريت أمفروسيوس يوراسوف[/font">
إن صلة الإنسان المسيحي بسائر أعضاء الكنيسة لا تنقطع أبداً حتى بعد رقاده فيموت الجسد أما الروح فتبقى خالدة. إن جميع المسيحيين يكوّنون جسدا واحدا وهو كنيسة المسيح (أف 23:1؛ 1كو 18:1؛ عب 23-22:12) والتعبير الظاهري عن هذا الارتباط هو صلاة أعضاء الكنيسة الأحياء لأجل الراقدين. فما هي ضرورتها؟
لا أظن أن هناك إنسان يتجرأ أن يقول وهو على وشك الموت إنه قد تطهر من الخطايا إلى درجة كافية. من المعروف أنه في الحياة ما بعد الموت لا توجد فرصة للتوبة وليس بإمكان الخطاة تخفيف آلامهم بجهودهم الشخصية. ولا يمكن أن يساعدهم في ذلك إلا صلاة الأحياء أي صلاة الكنيسة والصدقة عن نفوسهم والأهم من ذلك كله الذبيحة غير الدموية على المذبح. وحسب تعليم الكنيسة الأرثوذكسية تساعد هذه الصلوات على إخراج النفوس من الجحيم وتقودهم إلى القيامة أي من شأنها مساعدة نفوس الراقدين على أن تنال مغفرة الخطايا والانتقال إلى حالة روحية أفضل. تستند الكنيسة على كلمة الله وإرشادات الآباء القديسين ومعلّمي الكنيسة في موضوع الصلاة من أجل الراقدين وهي تولّي أهمية بالغة لهذه المسألة. إن الكتاب المقدس يوصّي المسيحيين: " صَلُّوا بَعْضُكُمْ لأَجْلِ بَعْضٍ" (يع 16:5)؛ صلوا لأجل أخيكم الذي "يُخْطِئُ خَطِيَّةً لَيْسَتْ لِلْمَوْتِ" (1يو 16:5)؛ "لأَجْلِ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ" (أف 18:6) أي جميع المسيحيين و" لأَجْلِ جَمِيعِ النَّاسِ" (1تي 1:2). ومعنى ذلك أنه لا بد من الصلاة من أجل الراقدين أيضا لأَنَّ الْجَمِيعَ عِنْدَ الله أَحْيَاءٌ (لو 38:20) و "لأَنَّنَا إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ، وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ" (رو 8:14).
لماذا ينبغي علينا أن نصلي لأجل بعضنا البعض؟ لأننا كلنا أولاد آب واحد وأعضاء جسد المسيح الواحد. يقول الرب: "بِهذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ" (يو 35:13). أما المحبة فحسب قول الرسول "لاَ تَسْقُطُ أَبَدًا" (1كو 8:13). يقول يوحنا اللاهوتي: "بِهذَا قَدْ عَرَفْنَا الْمَحَبَّةَ: أَنَّ ذاكَ وَضَعَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، فَنَحْنُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَضَعَ نُفُوسَنَا لأَجْلِ الإِخْوَةِ." (1يو 16:3) ويكتب بولس الرسول: " صَادِقِينَ فِي الْمَحَبَّةِ، نَنْمُو فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَى ذَاكَ الَّذِي هُوَ الرَّأْسُ: الْمَسِيحُ" (أف 15:4). ومعنى هذا كله أن المحبة الحقيقية تساهم في النمو الروحي للمسيحيين وتطهّرهم ومغفرة خطاياهم. تتضح إمكانية هذا النمو والمغفرة حتى بعد الموت من كلمات المخلّص: " كلُّ خَطِيَّةٍ وَتَجْدِيفٍ يُغْفَرُ لِلنَّاسِ... وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ، لاَ فِي هذَا الْعَالَمِ وَلاَ فِي الآتي" (مت 32-31:12).أي أنه لو لم يكن من الممكن مغفرة الخطايا بعد الموت على الإطلاق لما قال الرب إن التجديف على الروح القدس لن يغفر في الدهر الآتي. عندما كان الرب يصلي من أجل تلاميذه قبل موته على الصليب طلب من الآب أن يمنحهم النعمة الأبدية: " أَيُّهَا الآبُ أُرِيدُ أَنَّ هؤُلاَءِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا، لِيَنْظُرُوا مَجْدِي..." (يو 24:17). كان بولس الرسول يطلب من الرب أن يرحم أنيسيفورس بعد موته: " لِيُعْطِهِ الرَّبُّ أَنْ يَجِدَ رَحْمَةً مِنَ الرَّبِّ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ" (2تي 18:1) أي في يوم الدينونة. يخبرنا بطرس الرسول بكرازة الرب " لِلأَرْوَاحِ الَّتِي فِي السِّجْنِ إِذْ عَصَتْ قَدِيمًا، حِينَ كَانَتْ أَنَاةُ اللهِ تَنْتَظِرُ... فَإِنَّهُ لأَجْلِ هذَا بُشِّرَ الْمَوْتى أَيْضًا" (1بط 20-19:3؛ 6:4). أي لو لم يكن هناك مجال للمنو الروحي بعد الموت وإمكان مغفرة الخطايا لما كانت هناك حاجة إلى الكرازة للأموات. نجد في الكتاب المقدس كثيرا من الإشارات المباشرة إلى ذكر الأموات في الصلاة وإعطاء تبرعات عن نفوسهم. جرت العادة في كنيسة العهد القديم أن يتم كسر الخبز عن الأموات وتوزيعه على الفقراء (تث 14:26؛ إر 7:16) وفرض الصوم بمناسبة وفاة الأقرباء (1صم 13:31؛ 2صم 12:1). يخبرنا سفر القضاة بأن عادة ذكر الأموات كانت منتشرة في إسرائيل (قض 40:11) وهدف ذلك هو طلب مغفرة خطاياهم. كما نجد دليلا على عادة التبرع عن نفوس الأموات في سفر الراعوث: " مُبَارَكٌ هُوَ مِنَ الرَّبِّ لأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكِ الْمَعْرُوفَ مَعَ الأَحْيَاءِ وَالْمَوْتَى" (را 20:2). يرفض البروتستانت الصلوات من أجل الراقدين وهم لا يؤمنون بفعاليتها معتبرين إياها باطلة غير مفيدة مستندين إلى قصة الإنجيل عن الرجل الغني الذي تألم في الجحيم ومهما تضرع إلى إبراهيم لم يستطع إقناعه بتخفيف عذابه: " بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أُثْبِتَتْ، حَتَّى إِنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْعُبُورَ مِنْ ههُنَا إِلَيْكُمْ لاَ يَقْدِرُونَ، وَلاَ الَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ يَجْتَازُونَ إِلَيْنَا" (لو 26:16). إن صلاة الغني وصلت إلى حضن إبراهيم رغم وجود هوة عظيمة لم يستطع أحد عبورها، ولكن هذه الهوة انتهى دورها مع نهاية عصر العهد القديم الذي كان لا بد للناس فيه أن يستمعوا إلى موسى والأنبياء (لو 29:16). أي أن المستحيل بالنسبة لإبراهيم أصبح ممكنا بعد موت ربنا على الصليب. إن الهوة بين الفردوس والجحيم تحطّمت بفداء المسيح إذ أن الرب بآلامه على الصليب فدى ليس الأحياء فقط بل الأموات أي العالم كله. يقول الرسول بولس: " إِذْ صَعِدَ إِلَى الْعَلاَءِ سَبَى سَبْيًا وَأَعْطَى النَّاسَ عَطَايَا». وَأَمَّا أَنَّهُ «صَعِدَ»، فَمَا هُوَ إِلاَّ إِنَّهُ نَزَلَ أَيْضًا أَوَّلاً إِلَى أَقْسَامِ الأَرْضِ السُّفْلَى" (أف 9-8:4). بعد أن نزل المسيح بروحه إلى الجحيم وانتصر على الشيطان حرر أرواح المتواجدين هناك ومنهم من قام من الأموات في الحال بحسب قول الإنجيل (مت 53-52:27). بعد آلامه على الصليب أعطي للمسيح "كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ" (مت 18:28) وحصل على " مَفَاتِيحُ الْهَاوِيَةِ وَالْمَوْتِ" (رؤ 18:1) مما يدلّ على أن هناك مخرج من الجحيم إلى الفردوس. " هذَا يَقُولُهُ الْقُدُّوسُ الْحَقُّ، الَّذِي لَهُ مِفْتَاحُ دَاوُدَ، الَّذِي يَفْتَحُ وَلاَ أَحَدٌ يُغْلِقُ، وَيُغْلِقُ وَلاَ أَحَدٌ يَفْتَحُ" (رؤ 7:3). فيستطيع الرب أن يعطي رحمته لكل راقد وفي قدرته أن يخرج أي نفس من الجحيم وينقلها إلى ملكوت السماوات. قال الرب: " وَمَهْمَا سَأَلْتُمْ بِاسْمِي فَذلِكَ أَفْعَلُهُ لِيَتَمَجَّدَ الآبُ بِالابْنِ. إِنْ سَأَلْتُمْ شَيْئًا بِاسْمِي فَإِنِّي أَفْعَلُهُ" (يو 14-13:14) وبالتالي فإن للرب سلطان أن يستجيب إلى التضرغ من أجل تخفيف مصير الراقد الذي لم يخطئ خطيئة للموت. لذلك لا تذهب صلواتنا من أجل الراقدين هباء وإلا ما معنى كلام بولس الرسول: " أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟" (1كو 55:15). إن نفوس الراقدين تتواجد على درجات مختلفة بناء على حالتهم الروحية وكثرة خطاياهم ومدى صعوبتها. كما أنه توجد في السماوات "منازل كثيرة" (يو 2:14) للأبرار بحسب حالتهم الروحية هكذا تختلف أنواع السجون في الجحيم. تتكدس في بعضها أولئك الذين ارتكبوا "خطيئة للموت" ضد الروح القدس (مت 32-31:12) أي المجدّفون على الله وكنيسته الذين رفضوا عقيدة الفداء الإلهي ولم يتوبوا عن خطاياهم مثل الرجل الغني في القصة الإنجيلية، إضافة إلى الذين انتحروا عن وعي أي قاموا ضد خالقهم، ولا تصلي الكنيسة لأجل هؤلاء (1يو 17-16:5). أما المتواجدون في درجات الجحيم الأخرى فهم أؤلئك الذين كانوا مؤمنين في حياتهم ولم يستطيعوا أو لم يلحقوا أن يتوبوا لأسباب خارجة عن إدارتهم مثلا قُتلوا في الحروب أو ماتوا موتا مفاجئا أو لم يلحقوا بأن يصنعوا أثمارا تليق بالتوبة. فالكنيسة ترفع صلواتها لأجلهم وهي تؤمن أنها تأتيهم بالفائدة وتقدرعلى إخراجهم من الجحيم نهائيا. يقول الكتاب: " كَمَا وُضِعَ لِلنَّاسِ أَنْ يَمُوتُوا مَرَّةً ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ الدَّيْنُونَةُ" (عب 27:9) فيعتمد البروتستانت على هذا القول معتبرين أن حكم الله يأني بعد الموت مباشرة وبالتالي لا فائدة من الصلاة لأجل مصير الراقد. أما الكنيسة الأرثوذكسية فحسب تعليمها الذي يستند إلى الكتاب المقدس يواجه الراقدون محاكمتين وهما الحكم الفردي للنفس الذي يأتي بعد رقاد الإنسان والدينونة العامة التي ستأتي بعد القيامة العامة ونهاية العالم والمجيء الثاني للمسيح (مت 30-29:24؛ مر 26-24:13؛ لو 27-25:21). لو كان يتم تقرير مصير النفوس بعد رقاد الناس نهائيا لما كانت هناك حاجة إلى الدينونة العامة. ولكن ما دام الراقدون موجودين قيد الحبس إن صحّ القول وتعتمد مدته وصعوبته على ما اكتسبه الإنسان روحيا في حياته الأرضية فلهم الحق في أن ينالوا الشفاعة من أجلهم من ناس آخرين أعضاء الكنيسة وأن يأملوا في رحمة السيد. لذلك لا بد من أن نصلّي ما دام لدينا وقت لأجل إخوتنا وأخواتنا الراقدين المنتظرين اليوم العظيم الذي يجتمع فيه جميع الشعوب أمام المسيح (مت 32:25). يقول البروتستانت إن الصلاة والصدقة لا يمكن أن تنقذ الإنسان من العقوبة الأبدية: " مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟ (مر 37:. ولكن هذا القول لا ينطبق على الصلاة لأجل الراقدين بل يقصد به ثمن نفس الإنسان التي هي أغلى من كل كنوز العالم ومن خسرها فلا يشتريها بأي أثمان. إننا نؤمن بأن المسيح " يَحْكُمُ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ حَسَبَ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ" وأننا "افْتُدِينا لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ" (1بط 19-17:1). فبعد فداء المسيح لكل واحد الفرصة في التكفير عن ذنوبه بالتوبة والأعمال الصالحة، ولكن مهما كان بارّا فإنه غير قادر على التكفير عن كافة ذنوبه ولذلك يكون بحاجة إلى الصلاة لأجله عندما ليس في استطاعته عمل أي شيء. إن الله يحبّ كل إنسان و"يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ" (1تي 4:2) ولكننا مع ذلك لا نعرف من سيخلص لأن الرحمة "لَيْسَ لِمَنْ يَشَاءُ وَلاَ لِمَنْ يَسْعَى، بَلْ ِللهِ الَّذِي يَرْحَمُ" (رو 16:9) فبالتالي ينبغي لنا أن نتضرع بإيمان وباجتهاد إلى الله لأجل إخوتنا الراقدين. يجب أن نصلي لأجلهم كما أنهم أيضا بصلّون لأجلنا، فهذه الصلاة تأتي بالفائدة والتعزية لكل من الأحياء والراقدين، إنها تخفف على الأحياء ألم فقدان الأقرباء ولكن حتى بعد مرور الوقت ومداواة الجروح لا تزال صلاتنا ترتفع من أجلهم وهي دليل على حبّنا لهم، فإذا كان أحد لا يصلّي لأجل أقربائه الراقدين فمعنى ذلك أنه ميّت روحيا ولا يحبّهم ولا ينفّذ وصية المحبة التي تركها المسيح: "منْ لاَ يُحِبَّ أَخَاهُ يَبْقَ فِي الْمَوْتِ" (1يو 14:3).
- من كتاب "حياة الروح بعد الموت" بقلم أليكسي أوسيبوف البروفسور في الأكاديمية الروحية بموسكو إن الرب بمجيئه إلى العالم أظهر ليس محبته العظيمة فقط، بل الاتضاع العظيم أيضا، لأنه لا يريد أن يمارس أقلّ ضغط على حرية الإنسان فيصبح باب الخلاص مفتوحا لكل من يقبل الله بإرادته ويردّ على محبته العظيمة بمحبة. من هنا تتجلى أهمية أسلوب الحياة التي يعيشها الإنسان على الأرض. إن حرّيتنا واختيارنا لا يتحققان إلا ما دمنا عائشين على الأرض. لا يمكن للإنسان أن يحقق مواهبه البشرية أو يصنع الخير أو الشر وأن يخطئ ويتوب ويسير في طريق البرّ إلا وهو لا يزال يلبس جسده. أما بعد الموت فلا يوجد اختيار بل تظهر ثمار الحياة الأرضية وتواجه النفس نتيجة ما كان يسعى إليه الإنسان طوال حياته. فما الذي يحصل خارج هذه الحياة بعد أن تكتمل 40 يوما من انفصال الروح عن الجسد؟ يمكن القول إن هذا اليوم هو يوم جني الثمار الأولى لحياة الإنسان الأرضية. حسب تعليم الكنيسة تتمثل النفس أمام عرش الله لتسمع قراره، وفي نفس الوقت لا نخطئ إذا قلنا إنه يتمّ تقرير مصير النفس من قبل الإنسان نفسه أمام وجه الله، لأن الله لكونه المحبة العظمى والاتضاع الأعظم لا يظهر أي ضغط تجاه أي شخصية. ولذلك يمكننا الافتراض بأنه في اليوم الذي تتمثل فيه النفس أمام الله تنكشف الحالة الروحية للإنسان بشكل كامل ويحدث اتحاد طبيعي إما مع روح الله أو مع أرواح الأهواء المعذبّة وهو ما تسمّيه الكنيسة "حكم خاص/فردي" للنفس. ولكن هذه المحاكمة ليست عادية إذ أن الذي يدين الإنسان ليس هو الله بل الإنسان نفسه بعد رؤية وجه الله القدّوس فإمّا يرتفع إلى الله أو يهبط في الهاوية. وذلك لا يعتمد على إرادته بل على تلك الحالة الروحية التي كان قد اكتسبها في حياته على الأرض. ومع ذلك لا يعتبر حكم الله على النفس في اليوم الأربعين حكما نهائيا، فكما نعرف من تعليم الكنيسة يأتي يوم الدينونة الأخيرة الذي سيتغير فيه مصير الكثير من الناس بصلوات الكنيسة. إن صلوات الكنيسة من أجل الراقدين لا يمكن أن تذهب هباءً، وإلا لماذا نصلّي؟ ولكن الكنيسة تعمل ذلك في كل قداس وتدعونا إلى المشاركة مؤكدة على أن نفس الإنسان الراقد تكون بحاجة إلى صلوات خاصة خلال 40 يوما بعد رقاده. فما هي هذه الصلوات؟ هناك طريقتان مختلفتان لفهم الصلاة: الأولى ظاهرية طقسية (أو ناموسية بلغة الإنجيل) والثانية أكثر عمقا وصدقا وتضحية. للأسف الشديد نجد الطريقة الأولى سائدة بين الناس أي أن الصلاة الحقيقية تستبدل بشكلها الخارجي إما بسبب عدم المعرفة أو بسبب الكسل. فكثيرا ما يعتبرون الذهاب إل الكنيسة وحضور القداس أمرا كافيا دون أن يبذلوا أدنى جهد للصلاة الحقيقية إلى الله بكل انتباه وخشوع وانسحاق القلب، فكلّنا اختبرنا أكثر من مرة كيف نحضر القداس والأفكار الخارجية والهموم الدنيوية الكثيرة تراودنا دون أن نلجأ عند ذلك إلى الصلاة. عندما ينتقل إنسان عن هذا العالم كثيرا ما يكتفي أهله بطلب الصلاة من أجله من طرف الكاهن أو بتسجيل اسمه في قوائم الذين يصلّى لهم في الكنائس والأديرة أو بالتبرع لصالح الكنائس. كل هذا يكون جيدا إذا لم ننس الأمر الأهمّ، فمن الواضح أن الله لا يحتاج إلى المال. فما هو الأمر الأهم في مساعدة الإنسان الراقد؟ قد يتساءل البعض: إذا كان الله محبة فلماذا نصلي له ما دام يعرف أحسن منا ماذا يعمل، أو إذا لم يعد في استطاعتنا عمل أي شيء فما الفائدة من الصلاة؟ لذلك رفض البروتسنانت الصلاة من أجل الراقدين، أما الكنيسة الأرثوذكسية فمنذ العصور الأولى من وجودها تشدد على أهمية التضرع من أجلهم. إن الكنيسة تقول إن حالة الإنسان الذي وجد نفسه بعد الموت في قيود الأهواء تكون قابلة للتغيير. فمن هم الذين تدعو الكنيسة للصلاة من أجلهم؟ هل هم من القديسين؟ لا، بل الخطاة. أي أن صلواتنا من شأنها أن تساعد النفس على النجاة من الشياطين المعذبين. كيف؟ قد أجاب الرب على هذا السؤال لتلاميذه الذين لم يقدروا على طرد الشيطان (مت 21:17) مشيرا بذلك إلى أن تخلّص الإنسان من الشياطين أي من عبودية الأهواء يتطلب ليس الصلاة فقط بل الصوم أيضا أي نوعا من الجهاد الروحي والجسدي. لذلك لا نجد في تاريخ الكنيسة سوى كهنة ونسّاكا قليلين وهبهم الله القدرة على طرد الشياطين، لأن هذه الموهبة تعتمد على حياة النسك والجهاد. حتى الرسل أنفسهم لم يكونوا مهيّئين في تلك المرة لهذا الشيء. قد كشفت لنا الكنيسة الأرثوذكسية حقيقة عظيمة وهي أن كل المؤمنين يكوّنون جسدا حيّا واحدا. إننا خلايا حية في جسد المسيح الحي. قد كتب بولس الرسول ما يبدو بسيطا من الوهلة الأولى ولكنه يتميز بأهمية فائقة بالنسبة لنا: "لاَ تَقْدِرُ الْعَيْنُ أَن تَقُولَ لِلْيَدِ:«لاَ حَاجَةَ لِي إِلَيْكِ!». أَوِ الرَّأْسُ أَيْضًا لِلرِّجْلَيْنِ:«لاَ حَاجَةَ لِي إِلَيْكُمَا!" (1 كو 21:12). إننا كلنا عبارة عن جسد واحد، ومن المعروف أن حالة كل عضو بل كل خلية في الجسد تؤثر على حالة الجسد بشكل عام وعلى كل خلية أخرى على حدة. مرة تقدم لي أحد الطلاب شاكيا من الألم الشديد في السن وطالبا الإذن بعدم حضور المحاضرة للذهاب إلى الطبيب. فقلته له: "وما بالك أنت من الألم في السن؟ إنها هي التي تتألم وليس أنت. انسها ودعها تتألم." فرد الطالب مبتسما: "أنت لا تأخذ الموضوع على محمل الجدّ يا بروفسور..." إذاً كل شيء في الجسد الحي مترابط. ولكن ماذا عن أولئك الموجودين خارج هذا الجسد أي غير الأرثوذكس وغير المسيحيين؟ إنه ليس بأيدينا الحكم على مصيرهم لأنه تتقصنا المعرفة عن حالتهم الروحية وعن ظروف حياتهم. واجبنا هو معرفة الإيمان الحق ولكن مع ذلك لا يحق لنا بأي حال من الأحوال أن نقول إن فلان قد هلك وسيبقى خارج الكنيسة إلى الأبد. فلنتذكر أن أول من دخل الفردوس هو الإنسان الذي لو حكمنا عليه حسب المنطق البشري لا بد أنه يهلك لأنه كان لصّا. ولذلك لكل واحد الحق في الحصول على المساعدة بالصلاة باستثناء حالات معينة تحددها الكنيسة. السؤال الذي يطرح نفسه: كيف يستطيع الإنسان أن يساعد إنسانا آخر روحيا وخاصة إذا كان ذلك الآخر من الراقدين؟ الجواب يأتينا من مبدأ عمل أي جسد حي كل أعضائه مترابطة وتساعد بعضها البعض، فمثلا إذا فقدت إحدى العينين البصر فالأخرى تبصر عن الاثنتين. إنه ناموس طبيعي للدعم المتبادل. فبإمكان العضو السليم أو الخلية السليمة أن تتولى وظائف الأعضاء المريضة فتساعدها مساعدة حقيقية وهذا ما يحدث في مجال التعامل الجسدي والروحي بين الناس. لا يستطيع أن ينال المريض المساعدة إلا من الإنسان الجيد الصحة. على سبيل المثال إذا ذهبنا في رحلة إلى الجبال والتوى قدم أحد المشاركين فنأخذ حقيبته ونوزّع أغراضه بين الجميع والذي يفوق الآخرين قوة يأخذ أكثر من غيره. هذه الصورة تساعدنا على فهم جزء من سر الصلاة لأجل الآخرين سواء أكانوا من الأحياء أو الأموات. لا نستطيع مساعدة الآخرين روحيا إلا إذا بذلنا جهدنا لتطهير أنفسنا. أي أن صلاتنا الشخصية تكون فعالة إذا ارتبطت بالجهاد الشخصي في تنفيذ وصايا المسيح ومكافحة أهوائنا. في هذه الحالة نقترب من الاتضاع ونتقوى في الإيمان ونبدأ نشعر بمحبة قلبية تجاه الآخرين فتصبح الروح جاهزة للصلاة الفعالة من أجل إنسان راقد. ولكن مشكلتنا تتلخص كما قلت في اكتفائنا بالناحية الظاهرية للصلاة أي طلبها من طرف الكنيسة، ونكون مستعدين للتبرع لكل الأديرة والكنائس لكي يصلي آخر بدلا منا دون أن نحرّك ساكنا في سبيل مكافحة الإنسان العتيق المترسخ فينا أي مثلا دون أن نمتنع عن الغضب والإدانة وإرضاء المعدة ودون أن نقدم على الاعتراف والمناولة وأن نقرأ الكتاب المقدس ونساعد المحتاجين ونهتمّ بالمرضى وذلك من أجل أحبّائنا من الراقدين. فبهذا التصرف نتشبه بالوثنيين فتذهب كل تبرعاتنا هباء. قال الرب: "وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالشِّبِثَّ وَالْكَمُّونَ، وَتَرَكْتُمْ أَثْقَلَ النَّامُوسِ: الْحَقَّ وَالرَّحْمَةَ وَالإِيمَانَ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هذِهِ وَلاَ تَتْرُكُوا تِلْكَ." (مت 23:23). ويتضح من هذه الآية أن الرب وهو لا يرفض الأعمال الظاهرية ينبّه بنبرة صارمة: "ويل لكم أيها المراؤون" إذا اكتفيتم بالعشور ولم تفعلوا ما هو أهمّ. أما الأهم فهو: الحق أي الأهتمام السليم بحياتنا الروحية بحيث تتناسب كل أعمالنا وأفكارنا مع الإنجيل؛ الرحمة وهي تخصّ معاملتنا للمحتاجين ومسامحتنا للمذنبين إلينا؛ الإيمان أي الصلاة الشخصية وحياة التقوى والتوبة والجهاد الشخصي. في هذه الحالة بإمكاننا أن نساعد إنسانا آخر بصلاتنا التي تتحول إلى قوة فعالة. تكون نفس الإنسان الراقد خلال الأيام الأربعين الأولى بأمسّ الحاجة إلى الصلاة التي يرافقها نوع من التضحية أي الامتناع عن هوى من أهوائنا حتى ولو كان بسيطا فإذا أراد أحد أن يساعد قريبه الذي انتقل مؤخرا فليضحّ بجزء من نفسه وليعش هذه الفترة مبتعدا عن الأهواء الجسدية والحسّية والفكرية في جو الصلاة والكتاب المقدس وليصالح أعداءه وليحسن إلى مبغضيه حسب وصية الرب وليحارب أهواءه مثل الغضب والحسد وإدانة الغير وليقدم على الاعتراف والمناولة مراراً أي ليطهر نفسه ولو قليلا من أجل قريبه المحتاج إلى المساعدة لأن الحب الحقيقي لا يتجلى إلا في التضحية. وكلما كان حبّنا لقريبنا أقوى جاهدنا من أجله أكثر. لا بد أن تقول لنفسك: سأحاول أن أكون مسيحيا حقيقيا ولو الأيام الأربعين هذه. وفي هذه الحالة ستأتي صلاتك وتبرعاتك بالفائدة الكبيرة لقريبك الراقد.لماذا تتغلب على الإنسان الأهواء المختلفة؟ الجواب واضح: لأنه لا يحارب الخطيئة في أول ظهورها ما دام يملك القوة لمقاومتها والتغلب عليها بل يخضع لها ويفتح باب نفسه للشيطان فتتحول الخطيئة إذا تكررت إلى هوى يقيم سلطانه على الإنسان. فهل مإمكاننا مساعدة إنسان آخر وخاصة إذا كان قد انتقل عن هذا العالم ولم يعد له الحرية للتخلص من أهوائه المهلكة إذا لم نكن نحارب أهواءنا ونحن لا نزال في ظروف الحرية الكاملة؟ إننا لا نكتسب القدرة على مساعدة الآخرين إلا بجهادنا في سبيل الحياة المسيحية الحقيقية. وفي هذه الحالة نقترب من الله حسب قول القديس أنطونيوس الكبير، وبقدر اقترابنا منه نكتسب القدرة على الاتحاد الروحي مع نفس الإنسان الراقد ومساعدتها على تغيير حالتها. فكلما تطهرت أنفسنا كلما أصبحنا قادرين على معاونة نفس الإنسان الراقد. يمكن القول إن نفسه هناك تقترب من الله بقدر ما نقترب منه نحن هنا. هذه هي الصورة التقريبية للطريقة الفعالة في الصلاة من أجل الراقدين. إن مثل هذه الصلاة تؤدي إلى اتحاد نفوس البشر في الله، وحتى لو لم تكن صلاتنا قادرة على مساعدة نفس الراقد فإنها بلا شك ترجع بالفائدة الكبيرة على نفس الإنسان المصلّي.
لا أظن أن هناك إنسان يتجرأ أن يقول وهو على وشك الموت إنه قد تطهر من الخطايا إلى درجة كافية. من المعروف أنه في الحياة ما بعد الموت لا توجد فرصة للتوبة وليس بإمكان الخطاة تخفيف آلامهم بجهودهم الشخصية. ولا يمكن أن يساعدهم في ذلك إلا صلاة الأحياء أي صلاة الكنيسة والصدقة عن نفوسهم والأهم من ذلك كله الذبيحة غير الدموية على المذبح. وحسب تعليم الكنيسة الأرثوذكسية تساعد هذه الصلوات على إخراج النفوس من الجحيم وتقودهم إلى القيامة أي من شأنها مساعدة نفوس الراقدين على أن تنال مغفرة الخطايا والانتقال إلى حالة روحية أفضل. تستند الكنيسة على كلمة الله وإرشادات الآباء القديسين ومعلّمي الكنيسة في موضوع الصلاة من أجل الراقدين وهي تولّي أهمية بالغة لهذه المسألة. إن الكتاب المقدس يوصّي المسيحيين: " صَلُّوا بَعْضُكُمْ لأَجْلِ بَعْضٍ" (يع 16:5)؛ صلوا لأجل أخيكم الذي "يُخْطِئُ خَطِيَّةً لَيْسَتْ لِلْمَوْتِ" (1يو 16:5)؛ "لأَجْلِ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ" (أف 18:6) أي جميع المسيحيين و" لأَجْلِ جَمِيعِ النَّاسِ" (1تي 1:2). ومعنى ذلك أنه لا بد من الصلاة من أجل الراقدين أيضا لأَنَّ الْجَمِيعَ عِنْدَ الله أَحْيَاءٌ (لو 38:20) و "لأَنَّنَا إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ، وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ" (رو 8:14).
لماذا ينبغي علينا أن نصلي لأجل بعضنا البعض؟ لأننا كلنا أولاد آب واحد وأعضاء جسد المسيح الواحد. يقول الرب: "بِهذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ" (يو 35:13). أما المحبة فحسب قول الرسول "لاَ تَسْقُطُ أَبَدًا" (1كو 8:13). يقول يوحنا اللاهوتي: "بِهذَا قَدْ عَرَفْنَا الْمَحَبَّةَ: أَنَّ ذاكَ وَضَعَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، فَنَحْنُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَضَعَ نُفُوسَنَا لأَجْلِ الإِخْوَةِ." (1يو 16:3) ويكتب بولس الرسول: " صَادِقِينَ فِي الْمَحَبَّةِ، نَنْمُو فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَى ذَاكَ الَّذِي هُوَ الرَّأْسُ: الْمَسِيحُ" (أف 15:4). ومعنى هذا كله أن المحبة الحقيقية تساهم في النمو الروحي للمسيحيين وتطهّرهم ومغفرة خطاياهم. تتضح إمكانية هذا النمو والمغفرة حتى بعد الموت من كلمات المخلّص: " كلُّ خَطِيَّةٍ وَتَجْدِيفٍ يُغْفَرُ لِلنَّاسِ... وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ، لاَ فِي هذَا الْعَالَمِ وَلاَ فِي الآتي" (مت 32-31:12).أي أنه لو لم يكن من الممكن مغفرة الخطايا بعد الموت على الإطلاق لما قال الرب إن التجديف على الروح القدس لن يغفر في الدهر الآتي. عندما كان الرب يصلي من أجل تلاميذه قبل موته على الصليب طلب من الآب أن يمنحهم النعمة الأبدية: " أَيُّهَا الآبُ أُرِيدُ أَنَّ هؤُلاَءِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا، لِيَنْظُرُوا مَجْدِي..." (يو 24:17). كان بولس الرسول يطلب من الرب أن يرحم أنيسيفورس بعد موته: " لِيُعْطِهِ الرَّبُّ أَنْ يَجِدَ رَحْمَةً مِنَ الرَّبِّ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ" (2تي 18:1) أي في يوم الدينونة. يخبرنا بطرس الرسول بكرازة الرب " لِلأَرْوَاحِ الَّتِي فِي السِّجْنِ إِذْ عَصَتْ قَدِيمًا، حِينَ كَانَتْ أَنَاةُ اللهِ تَنْتَظِرُ... فَإِنَّهُ لأَجْلِ هذَا بُشِّرَ الْمَوْتى أَيْضًا" (1بط 20-19:3؛ 6:4). أي لو لم يكن هناك مجال للمنو الروحي بعد الموت وإمكان مغفرة الخطايا لما كانت هناك حاجة إلى الكرازة للأموات. نجد في الكتاب المقدس كثيرا من الإشارات المباشرة إلى ذكر الأموات في الصلاة وإعطاء تبرعات عن نفوسهم. جرت العادة في كنيسة العهد القديم أن يتم كسر الخبز عن الأموات وتوزيعه على الفقراء (تث 14:26؛ إر 7:16) وفرض الصوم بمناسبة وفاة الأقرباء (1صم 13:31؛ 2صم 12:1). يخبرنا سفر القضاة بأن عادة ذكر الأموات كانت منتشرة في إسرائيل (قض 40:11) وهدف ذلك هو طلب مغفرة خطاياهم. كما نجد دليلا على عادة التبرع عن نفوس الأموات في سفر الراعوث: " مُبَارَكٌ هُوَ مِنَ الرَّبِّ لأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكِ الْمَعْرُوفَ مَعَ الأَحْيَاءِ وَالْمَوْتَى" (را 20:2). يرفض البروتستانت الصلوات من أجل الراقدين وهم لا يؤمنون بفعاليتها معتبرين إياها باطلة غير مفيدة مستندين إلى قصة الإنجيل عن الرجل الغني الذي تألم في الجحيم ومهما تضرع إلى إبراهيم لم يستطع إقناعه بتخفيف عذابه: " بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أُثْبِتَتْ، حَتَّى إِنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْعُبُورَ مِنْ ههُنَا إِلَيْكُمْ لاَ يَقْدِرُونَ، وَلاَ الَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ يَجْتَازُونَ إِلَيْنَا" (لو 26:16). إن صلاة الغني وصلت إلى حضن إبراهيم رغم وجود هوة عظيمة لم يستطع أحد عبورها، ولكن هذه الهوة انتهى دورها مع نهاية عصر العهد القديم الذي كان لا بد للناس فيه أن يستمعوا إلى موسى والأنبياء (لو 29:16). أي أن المستحيل بالنسبة لإبراهيم أصبح ممكنا بعد موت ربنا على الصليب. إن الهوة بين الفردوس والجحيم تحطّمت بفداء المسيح إذ أن الرب بآلامه على الصليب فدى ليس الأحياء فقط بل الأموات أي العالم كله. يقول الرسول بولس: " إِذْ صَعِدَ إِلَى الْعَلاَءِ سَبَى سَبْيًا وَأَعْطَى النَّاسَ عَطَايَا». وَأَمَّا أَنَّهُ «صَعِدَ»، فَمَا هُوَ إِلاَّ إِنَّهُ نَزَلَ أَيْضًا أَوَّلاً إِلَى أَقْسَامِ الأَرْضِ السُّفْلَى" (أف 9-8:4). بعد أن نزل المسيح بروحه إلى الجحيم وانتصر على الشيطان حرر أرواح المتواجدين هناك ومنهم من قام من الأموات في الحال بحسب قول الإنجيل (مت 53-52:27). بعد آلامه على الصليب أعطي للمسيح "كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ" (مت 18:28) وحصل على " مَفَاتِيحُ الْهَاوِيَةِ وَالْمَوْتِ" (رؤ 18:1) مما يدلّ على أن هناك مخرج من الجحيم إلى الفردوس. " هذَا يَقُولُهُ الْقُدُّوسُ الْحَقُّ، الَّذِي لَهُ مِفْتَاحُ دَاوُدَ، الَّذِي يَفْتَحُ وَلاَ أَحَدٌ يُغْلِقُ، وَيُغْلِقُ وَلاَ أَحَدٌ يَفْتَحُ" (رؤ 7:3). فيستطيع الرب أن يعطي رحمته لكل راقد وفي قدرته أن يخرج أي نفس من الجحيم وينقلها إلى ملكوت السماوات. قال الرب: " وَمَهْمَا سَأَلْتُمْ بِاسْمِي فَذلِكَ أَفْعَلُهُ لِيَتَمَجَّدَ الآبُ بِالابْنِ. إِنْ سَأَلْتُمْ شَيْئًا بِاسْمِي فَإِنِّي أَفْعَلُهُ" (يو 14-13:14) وبالتالي فإن للرب سلطان أن يستجيب إلى التضرغ من أجل تخفيف مصير الراقد الذي لم يخطئ خطيئة للموت. لذلك لا تذهب صلواتنا من أجل الراقدين هباء وإلا ما معنى كلام بولس الرسول: " أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟" (1كو 55:15). إن نفوس الراقدين تتواجد على درجات مختلفة بناء على حالتهم الروحية وكثرة خطاياهم ومدى صعوبتها. كما أنه توجد في السماوات "منازل كثيرة" (يو 2:14) للأبرار بحسب حالتهم الروحية هكذا تختلف أنواع السجون في الجحيم. تتكدس في بعضها أولئك الذين ارتكبوا "خطيئة للموت" ضد الروح القدس (مت 32-31:12) أي المجدّفون على الله وكنيسته الذين رفضوا عقيدة الفداء الإلهي ولم يتوبوا عن خطاياهم مثل الرجل الغني في القصة الإنجيلية، إضافة إلى الذين انتحروا عن وعي أي قاموا ضد خالقهم، ولا تصلي الكنيسة لأجل هؤلاء (1يو 17-16:5). أما المتواجدون في درجات الجحيم الأخرى فهم أؤلئك الذين كانوا مؤمنين في حياتهم ولم يستطيعوا أو لم يلحقوا أن يتوبوا لأسباب خارجة عن إدارتهم مثلا قُتلوا في الحروب أو ماتوا موتا مفاجئا أو لم يلحقوا بأن يصنعوا أثمارا تليق بالتوبة. فالكنيسة ترفع صلواتها لأجلهم وهي تؤمن أنها تأتيهم بالفائدة وتقدرعلى إخراجهم من الجحيم نهائيا. يقول الكتاب: " كَمَا وُضِعَ لِلنَّاسِ أَنْ يَمُوتُوا مَرَّةً ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ الدَّيْنُونَةُ" (عب 27:9) فيعتمد البروتستانت على هذا القول معتبرين أن حكم الله يأني بعد الموت مباشرة وبالتالي لا فائدة من الصلاة لأجل مصير الراقد. أما الكنيسة الأرثوذكسية فحسب تعليمها الذي يستند إلى الكتاب المقدس يواجه الراقدون محاكمتين وهما الحكم الفردي للنفس الذي يأتي بعد رقاد الإنسان والدينونة العامة التي ستأتي بعد القيامة العامة ونهاية العالم والمجيء الثاني للمسيح (مت 30-29:24؛ مر 26-24:13؛ لو 27-25:21). لو كان يتم تقرير مصير النفوس بعد رقاد الناس نهائيا لما كانت هناك حاجة إلى الدينونة العامة. ولكن ما دام الراقدون موجودين قيد الحبس إن صحّ القول وتعتمد مدته وصعوبته على ما اكتسبه الإنسان روحيا في حياته الأرضية فلهم الحق في أن ينالوا الشفاعة من أجلهم من ناس آخرين أعضاء الكنيسة وأن يأملوا في رحمة السيد. لذلك لا بد من أن نصلّي ما دام لدينا وقت لأجل إخوتنا وأخواتنا الراقدين المنتظرين اليوم العظيم الذي يجتمع فيه جميع الشعوب أمام المسيح (مت 32:25). يقول البروتستانت إن الصلاة والصدقة لا يمكن أن تنقذ الإنسان من العقوبة الأبدية: " مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟ (مر 37:. ولكن هذا القول لا ينطبق على الصلاة لأجل الراقدين بل يقصد به ثمن نفس الإنسان التي هي أغلى من كل كنوز العالم ومن خسرها فلا يشتريها بأي أثمان. إننا نؤمن بأن المسيح " يَحْكُمُ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ حَسَبَ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ" وأننا "افْتُدِينا لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ" (1بط 19-17:1). فبعد فداء المسيح لكل واحد الفرصة في التكفير عن ذنوبه بالتوبة والأعمال الصالحة، ولكن مهما كان بارّا فإنه غير قادر على التكفير عن كافة ذنوبه ولذلك يكون بحاجة إلى الصلاة لأجله عندما ليس في استطاعته عمل أي شيء. إن الله يحبّ كل إنسان و"يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ" (1تي 4:2) ولكننا مع ذلك لا نعرف من سيخلص لأن الرحمة "لَيْسَ لِمَنْ يَشَاءُ وَلاَ لِمَنْ يَسْعَى، بَلْ ِللهِ الَّذِي يَرْحَمُ" (رو 16:9) فبالتالي ينبغي لنا أن نتضرع بإيمان وباجتهاد إلى الله لأجل إخوتنا الراقدين. يجب أن نصلي لأجلهم كما أنهم أيضا بصلّون لأجلنا، فهذه الصلاة تأتي بالفائدة والتعزية لكل من الأحياء والراقدين، إنها تخفف على الأحياء ألم فقدان الأقرباء ولكن حتى بعد مرور الوقت ومداواة الجروح لا تزال صلاتنا ترتفع من أجلهم وهي دليل على حبّنا لهم، فإذا كان أحد لا يصلّي لأجل أقربائه الراقدين فمعنى ذلك أنه ميّت روحيا ولا يحبّهم ولا ينفّذ وصية المحبة التي تركها المسيح: "منْ لاَ يُحِبَّ أَخَاهُ يَبْقَ فِي الْمَوْتِ" (1يو 14:3).
[center]- من كتاب "حياة الروح بعد الموت" بقلم أليكسي أوسيبوف البروفسور في الأكاديمية الروحية بموسكو
إن الرب بمجيئه إلى العالم أظهر ليس محبته العظيمة فقط، بل الاتضاع العظيم أيضا، لأنه لا يريد أن يمارس أقلّ ضغط على حرية الإنسان فيصبح باب الخلاص مفتوحا لكل من يقبل الله بإرادته ويردّ على محبته العظيمة بمحبة. من هنا تتجلى أهمية أسلوب الحياة التي يعيشها الإنسان على الأرض. إن حرّيتنا واختيارنا لا يتحققان إلا ما دمنا عائشين على الأرض. لا يمكن للإنسان أن يحقق مواهبه البشرية أو يصنع الخير أو الشر وأن يخطئ ويتوب ويسير في طريق البرّ إلا وهو لا يزال يلبس جسده. أما بعد الموت فلا يوجد اختيار بل تظهر ثمار الحياة الأرضية وتواجه النفس نتيجة ما كان يسعى إليه الإنسان طوال حياته. فما الذي يحصل خارج هذه الحياة بعد أن تكتمل 40 يوما من انفصال الروح عن الجسد؟ يمكن القول إن هذا اليوم هو يوم جني الثمار الأولى لحياة الإنسان الأرضية. حسب تعليم الكنيسة تتمثل النفس أمام عرش الله لتسمع قراره، وفي نفس الوقت لا نخطئ إذا قلنا إنه يتمّ تقرير مصير النفس من قبل الإنسان نفسه أمام وجه الله، لأن الله لكونه المحبة العظمى والاتضاع الأعظم لا يظهر أي ضغط تجاه أي شخصية. ولذلك يمكننا الافتراض بأنه في اليوم الذي تتمثل فيه النفس أمام الله تنكشف الحالة الروحية للإنسان بشكل كامل ويحدث اتحاد طبيعي إما مع روح الله أو مع أرواح الأهواء المعذبّة وهو ما تسمّيه الكنيسة "حكم خاص/فردي" للنفس. ولكن هذه المحاكمة ليست عادية إذ أن الذي يدين الإنسان ليس هو الله بل الإنسان نفسه بعد رؤية وجه الله القدّوس فإمّا يرتفع إلى الله أو يهبط في الهاوية. وذلك لا يعتمد على إرادته بل على تلك الحالة الروحية التي كان قد اكتسبها في حياته على الأرض. ومع ذلك لا يعتبر حكم الله على النفس في اليوم الأربعين حكما نهائيا، فكما نعرف من تعليم الكنيسة يأتي يوم الدينونة الأخيرة الذي سيتغير فيه مصير الكثير من الناس بصلوات الكنيسة. إن صلوات الكنيسة من أجل الراقدين لا يمكن أن تذهب هباءً، وإلا لماذا نصلّي؟ ولكن الكنيسة تعمل ذلك في كل قداس وتدعونا إلى المشاركة مؤكدة على أن نفس الإنسان الراقد تكون بحاجة إلى صلوات خاصة خلال 40 يوما بعد رقاده. فما هي هذه الصلوات؟ هناك طريقتان مختلفتان لفهم الصلاة: الأولى ظاهرية طقسية (أو ناموسية بلغة الإنجيل) والثانية أكثر عمقا وصدقا وتضحية. للأسف الشديد نجد الطريقة الأولى سائدة بين الناس أي أن الصلاة الحقيقية تستبدل بشكلها الخارجي إما بسبب عدم المعرفة أو بسبب الكسل. فكثيرا ما يعتبرون الذهاب إل الكنيسة وحضور القداس أمرا كافيا دون أن يبذلوا أدنى جهد للصلاة الحقيقية إلى الله بكل انتباه وخشوع وانسحاق القلب، فكلّنا اختبرنا أكثر من مرة كيف نحضر القداس والأفكار الخارجية والهموم الدنيوية الكثيرة تراودنا دون أن نلجأ عند ذلك إلى الصلاة. عندما ينتقل إنسان عن هذا العالم كثيرا ما يكتفي أهله بطلب الصلاة من أجله من طرف الكاهن أو بتسجيل اسمه في قوائم الذين يصلّى لهم في الكنائس والأديرة أو بالتبرع لصالح الكنائس. كل هذا يكون جيدا إذا لم ننس الأمر الأهمّ، فمن الواضح أن الله لا يحتاج إلى المال. فما هو الأمر الأهم في مساعدة الإنسان الراقد؟ قد يتساءل البعض: إذا كان الله محبة فلماذا نصلي له ما دام يعرف أحسن منا ماذا يعمل، أو إذا لم يعد في استطاعتنا عمل أي شيء فما الفائدة من الصلاة؟ لذلك رفض البروتسنانت الصلاة من أجل الراقدين، أما الكنيسة الأرثوذكسية فمنذ العصور الأولى من وجودها تشدد على أهمية التضرع من أجلهم. إن الكنيسة تقول إن حالة الإنسان الذي وجد نفسه بعد الموت في قيود الأهواء تكون قابلة للتغيير. فمن هم الذين تدعو الكنيسة للصلاة من أجلهم؟ هل هم من القديسين؟ لا، بل الخطاة. أي أن صلواتنا من شأنها أن تساعد النفس على النجاة من الشياطين المعذبين. كيف؟ قد أجاب الرب على هذا السؤال لتلاميذه الذين لم يقدروا على طرد الشيطان (مت 21:17) مشيرا بذلك إلى أن تخلّص الإنسان من الشياطين أي من عبودية الأهواء يتطلب ليس الصلاة فقط بل الصوم أيضا أي نوعا من الجهاد الروحي والجسدي. لذلك لا نجد في تاريخ الكنيسة سوى كهنة ونسّاكا قليلين وهبهم الله القدرة على طرد الشياطين، لأن هذه الموهبة تعتمد على حياة النسك والجهاد. حتى الرسل أنفسهم لم يكونوا مهيّئين في تلك المرة لهذا الشيء. قد كشفت لنا الكنيسة الأرثوذكسية حقيقة عظيمة وهي أن كل المؤمنين يكوّنون جسدا حيّا واحدا. إننا خلايا حية في جسد المسيح الحي. قد كتب بولس الرسول ما يبدو بسيطا من الوهلة الأولى ولكنه يتميز بأهمية فائقة بالنسبة لنا: "لاَ تَقْدِرُ الْعَيْنُ أَن تَقُولَ لِلْيَدِ:«لاَ حَاجَةَ لِي إِلَيْكِ!». أَوِ الرَّأْسُ أَيْضًا لِلرِّجْلَيْنِ:«لاَ حَاجَةَ لِي إِلَيْكُمَا!" (1 كو 21:12). إننا كلنا عبارة عن جسد واحد، ومن المعروف أن حالة كل عضو بل كل خلية في الجسد تؤثر على حالة الجسد بشكل عام وعلى كل خلية أخرى على حدة. مرة تقدم لي أحد الطلاب شاكيا من الألم الشديد في السن وطالبا الإذن بعدم حضور المحاضرة للذهاب إلى الطبيب. فقلته له: "وما بالك أنت من الألم في السن؟ إنها هي التي تتألم وليس أنت. انسها ودعها تتألم." فرد الطالب مبتسما: "أنت لا تأخذ الموضوع على محمل الجدّ يا بروفسور..." إذاً كل شيء في الجسد الحي مترابط. ولكن ماذا عن أولئك الموجودين خارج هذا الجسد أي غير الأرثوذكس وغير المسيحيين؟ إنه ليس بأيدينا الحكم على مصيرهم لأنه تتقصنا المعرفة عن حالتهم الروحية وعن ظروف حياتهم. واجبنا هو معرفة الإيمان الحق ولكن مع ذلك لا يحق لنا بأي حال من الأحوال أن نقول إن فلان قد هلك وسيبقى خارج الكنيسة إلى الأبد. فلنتذكر أن أول من دخل الفردوس هو الإنسان الذي لو حكمنا عليه حسب المنطق البشري لا بد أنه يهلك لأنه كان لصّا. ولذلك لكل واحد الحق في الحصول على المساعدة بالصلاة باستثناء حالات معينة تحددها الكنيسة. السؤال الذي يطرح نفسه: كيف يستطيع الإنسان أن يساعد إنسانا آخر روحيا وخاصة إذا كان ذلك الآخر من الراقدين؟ الجواب يأتينا من مبدأ عمل أي جسد حي كل أعضائه مترابطة وتساعد بعضها البعض، فمثلا إذا فقدت إحدى العينين البصر فالأخرى تبصر عن الاثنتين. إنه ناموس طبيعي للدعم المتبادل. فبإمكان العضو السليم أو الخلية السليمة أن تتولى وظائف الأعضاء المريضة فتساعدها مساعدة حقيقية وهذا ما يحدث في مجال التعامل الجسدي والروحي بين الناس. [color=white]لا يستطيع أن ينال المريض المساعدة إلا من الإنسان الجيد الصحة. على سبيل المثال إذا ذهبنا في رحلة إلى الجبال والتوى قدم أحد المشاركين فنأخذ حقيبته ونوزّع أغراضه بين الجميع والذي يفوق الآخرين قوة يأخذ أكثر من غيره. هذه الصورة تساعدنا