يوسف بين الخير والشر
القمص فليمون الأنبا بيشوي
هل إستطاع أخوة يوسف أن يميتوه؟
هل هدأت نفوس اخوته بعد أن باعوه وتخلصوا منه؟
هل إستطاع بئر جاف أن يوقف مسيرة الله معه؟
هل صمت الرب عن يوسف تاركاً الشر ينال منه؟
هل انتصر الشر على يوسف البار؟
ما موقف المتآمرين منه بعد أن رأوه متوجاً بل إلهاً لفرعون؟
هل في بداية التجربة كان يوسف يدرك الخطة الإلهية في حياته؟
لو لم يبع يوسف عبداً ولو لم يرذل من إخوته ماذا كانت نهايته؟
إنها قصة كل فرد منا فيه ينهزم الشر مهما طال، ويتبدد الظلام مهما انتشر ،
وتظهر الحقيقة حتى ولو بعد أجيال وأجيال.
فقال لهم يوسف لا تخافوا. لأنه هل أنا مكان الله.
أنتم قصدتم لي شراً ، أما الله فقصد به خيراً ، لكي يفعل كما اليوم ، ليحيى شعباً كثيراً (تك 50 : 19 – 20)
بين شكيم ودوثان :
هناك في شكيم كانت بداية اللقاء ، لقد مضى أولاد يعقوب يرعون غنم أبيهم ، وطال الفراق وانقطعت الأخبار ، فدعى يعقوب إبنه الذي يحبه يوسف قائلاً:
إذهب انظر سلامة اخوتك وسلامة الغنم ورد لي خبراً (تك 37 : 12) وخرج يوسف من لدن أبيه حاملاً سلامه ورسالته . وهناك في شكيم لم يكن له مكان ، في البرية كان تائهاً ضالاً إلى أن وجده أحد الرجال الذي أشار إليه بالتوجه إلى دوثان (تك 37 : 17).
وصل إلى دوثان والتعب قد أخذ منه ، ولكن حينما أبصره إخوته من بعيد احتالوا عليه ليميتوه ، فقال بعضهم لبعض: هوذا صاحب الأحلام هذا قادم ، فالآن هلم نقتله ونطرحه في إحدى الآبار ونقول وحش ردئ أكله .. فقال لهم رأوبين لا تسفكوا دماً إطرحوه في هذه البئر التي في البرية ولا تمدوا إليه يداً ..
فكان لما جاء يوسف إلى إخوته .. خلعوا قميصه الملون الذي عليه ، وأخذوه وطرحوه في البئر .. ثم جلسوا ليأكلوا طعاماً .. واجتاز رجال مديانيون (تجار) فسحبوا يوسف وأصعدوه من البئر وباعوا يوسف للإسماعيليين بعشرين من الفضة فأتوا بيوسف إلى مصر (تك 37: 18 – 29).
أهكذا يكون الجميل ؟ أهكذا يعامل الأبرار ؟!
ماذا كان شعور يوسف وقتها ؟! وفيما كان يفكر ؟
ولو نحن في مكانه ماذا كان تفكيرنا ؟ يأتي لسلام اخوته فيفكروا في قتله!!
لقد ضاقت نفسه مسترحماً اخوته بدون جدوى ، كانت قلوبهم كحديد مطروق أمام توسلاته واسترحماته لهم "حقا إننا مذنبون إلى أخينا الذي رأينا ضيقة نفسه لما استرحمنا ولم نسمع (تك 42: 22).
كيف استطاعوا أن يمدوا أيديهم إلى أخيهم ليوثقوه ويطرحوه حياً في بئر ؟ وهل هانت عليهم قلوبهم أن يتركوه يموت جوعاً ، أو ملتهماً من الوحوش البرية ، بعد أن التهموه ببغضة قلوبهم ؟ أين ضمائرهم ومخافتهم لإلههم ؟
ألقوه في البئر وجلسوا يأكلون !! إنها قسوة ما بعدها قسوة بل جحود ونكران لم نرى مثله من قبل .. كيف استطاعوا الجلوس للأكل . لقد ظنوا أنهم سيتخلصون منه ونسوا تماماً عناية الرب..
حقاً إن الأمور كلها تعمل معاً للخير وكل ما يعمل لا يعمل جزافاً بل بسماح من الله ، لمجد الإنسان والتسبيح إسم القدوس المبارك (بل لتظهر أعمال الله فيه يو 9 : 3):
احتالوا عليه ليميتوه ثم أوثقوه ، ملقين إياه في البئر. ثم مبيعين إياه بعشرين من الفضة وكأنما الفضة أثمن من أخيهم الذي جاء للسؤال عنهم حاملاً خيرات أبيه لبطونهم!!
أين هو الله ؟ ولماذا سمح بهذا ؟ أين العناية الإلهية؟
لا بد أن هذا كان تفكير يوسف الصديق ، الشاب الذي كان يحيا مع الله فكان ناجحاً في كل أعماله .
إن مشكلة الإنسان الكبرى هي عدم الصبر والحكم على الأمور بسرعة من الساعات الأولى للأحداث.. لقد تخلص أبناء يعقوب من يوسف وظنوا أن ملف القضية قد أغلق .. ولم يعلموا أن الله يحول الشر إلى خير ..
تآمروا عليه من بعيد .. أما الرب فبدد مؤامراتهم .
صمموا على قتله .. أما الرب فأعطاه عمراً.
تركوه جوعاناً .. فمد الرب يده وأطعمه.
ربطوه ظلماً .. فمد الرب يده وفكه.
عروه حقداً وحسداً فكان الرب ستره !! إيه يا نفسي إيه ؟هل أدركت عنايته ، هل أحسست بدفء محبته ورعايته..
في أرض مصر : جاء يوسف إلى مصر واشتراه فوطيفار خصي فرعون رئيس الشرط .. وهو رجل مصري .. من يد الإسماعيليين الذين أنزلوه إلى هناك وكان الرب مع يوسف فكان رجلاً ناجحاً (تك 39 : 1 ، 2).
سار يوسف في غربته عبداً مقيداً خلال قافلة الإسماعيليين ، يشعر بالوحدة والغربة وعدم الوفاء ، سار مع القافلة وقلبه مطحوناً مجروحاً من إخوته ولم يدرى أن الرب يرافقه إنه أمر مخفي عن عينيه وما أجمل الوحي حينما يكشف لنا "وكان الرب مع يوسف" (تك 39 : 1).
لو تنكر لي الآخرون حتى ولو كانوا بنو أمي فإن الرب معي لن يتركني وحيداً ، وكما كان مع يوسف هكذا يكون مع أولاده في الضيقة حتى لو أخفى عن عيونهم.
وهناك في مصر ظهرت اليد الإلهية تسانده ووجد يوسف نعمة في عيني سيده وخدمه فوكله على بيته ودفع إلى يده كل ما كان له ، وكانت بركة الرب على كل ما كان له (تك 39).
وجد يوسف تكريماً ونعمة في عيني سيده ولكن شعوره بالغربة ، شعوره ببعده عن أبيه يعقوب ، شعوره بمرارة حقد إخوته وما صنعوه ، إحساسه كعبد وهو من أحب إخوته إلى قلب أبيه .. إنها أحاسيس كانت تراوده ، وأفكاراً كانت تهاجمه ولم يكن يعلم أنها لخيره بل لخير قبيلته وعشيرته..
هل كان يعلم وقتها ما هو لسلامه ؟ كلا.
وهناك في بيت سيده أتهم زوراً وشكك في طهارة سلوكه ، ولم يدافع عن نفسه ولم يبرر من موقفه ولكن عينا الرب كانت له راصدة ، وعنايته حافظة ، وقوته مدبرة، ويده مخططة ، وإرادته نافذة .. أجل .. إزدادت التجربة ، ماذا كان شعوره وإحساسه؟ لمن يشكو ومع من يتكلم؟
إقتادوه إلى السجن بعد أن أمسكوه عارياً ، فالمرأة ألقت بإتهاماتها عليه ، والثوب في يديها شاهد على صدق قولها ، ويوسف أمامها عارياً لا يملك من الكلمات أو المواقف ما يدافع به عن نفسه !!
كيف كانت حياته ؟ ما مقدار الفضيحة حوله؟
وبماذا يواجه العبيد وسيده؟
ورغم أن العناية الإلهية كانت ترافقه كان لا بد من الآلام والتجارب.
سجين على كرسي الولاية: في درج السجن أودع البار ، لقد حكم عليه من الكل أنه إنسان شرير ، أجل ليس المهم حكم أو رأي الناس "كان الرب مع يوسف وبسط إليه لطفاً وجعل نعمة له في عيني رئيس السجن .. لأن الرب كان معه ومهما صنع كان الرب ينجحه" (تك 39 : 21 – 23).
وهناك في السجن أكمل يوسف جولته ورغم ما انتشر حوله من القيل القال كان الرب له ناصراً ومعضداً ، وهنا يتساءل الناس أو ربما لو كنا في موقفه لكنا لله سائلين:
لماذا لا تظهر الحق سريعاً؟ لما لا تنتقم لأنفسنا ؟ لماذا تسمح بهذا لأولادك؟
أجل إنه يحول الشر إلى خير ومن الجافي يخرج حلاوة !
وهناك في السجن كان يوسف منسياً لم يذكره رئيس السقاه كما أخبره بل نسيه (تك 40 : 23) ولكن حتى لو نسيت الأم الرضيع فإن الله لا ينسى أولاده ، ومهما طال الظلام لا بد من ضوء النهار.
وبعد سنتين من الزمان أن فرعون رأى حلماً (تك 41 : 1) سبع بقرات حسنة المنظر سمينة وسبع بقرات قبيحة المنظر ونحيفة، فأكلت البقرات النحيفة البقرات السمينة ، وسبع سنابل سمينة وسبع سنابل نحيفة فأبتلعت السنابل النحيفة السنابل السمينة واستيقظ فرعون من نومه منزعجاً، فأرسل ودعا جميع سحرة مصر وجميع حكمائها وقص عليهم فرعون حلمه فلم يكن من يفسره لفرعون (تك 41 : 1 –
فتذكر رئيس السقاه يوسف وأخبر فرعون فأرسل فرعون ودعا يوسف من السجن ليفسر له أحلامه (تك 41: 17).
وحسن كلام يوسف في عيني فرعون ، يوسف المباع من إخوته ، الغريب عن موطنه، المطعون في شرفه وكرامته، الصامت عن الدفاع عن نفسه حسن كلامه في عيني فرعون وفي عيون جميع عبيده فقال فرعون لعبيده هل نجد مثل هذا رجلاً فيه روح الله ؟! أهكذا يطيل الله أناته ؟ حقاً أن يوماً عند الله في السجن يحدث هذا ؟ أهكذا يطيل الله أناته ؟ حقاً إن يوماُ عند الله كألف سنة عند البشر ، والله لا يقيس الإنسان ولا تقاس أعماله بسنين أو أيام .. إنه يختار الوقت المناسب إنه في عنايته بنا يتخير أوقات النصرة لنا ، لو كان رئيس السقاه ذكر يوسف حال خروجه من السجن أي من سنتين قبل حلم فرعون ربما كان فرعون أطلق سراحه ورجع يوسف إلى وطنه دون أن يدخل في المجد ، أما التأخير حتى يحلم فرعون حلماً هاماً فكان الطريق إلى أن يتولى يوسف مسئولية البلاد الخيرة وخير إخوته.
وفال فرعون ليوسف بعدما أعلمك الله كل هذا ليس بصير وحكيم مثلك ، أنت تكون على بيتي وعلى فمك يقبل جميع شعبي .. انظر قد جعلتك على كل أرض مصر وخلع فرعون خاتمه من يده وجعله في يد يوسف ، والبسه ثياب بوص ، ووضع طوق ذهب في عنقه ، وأركبه في مركبته الثانية ونادوا أمامه : إركعوا .. وجعله على كل أرض مصر .. ودعا فرعون إسم يوسف مخلص العالم وكان يوسف ابن ثلاثين سنة (تك 41 : 37 – 46).
وهكذا كانت عناية الله ومحبته ليوسف الذي ربما لم يدركها ولم يفهمها في حينها ، وهكذا أصبح يوسف على كل أرض مصر ، لقد أنساه الله كل تعبه وكل عناء بيت أبيه وجعله مثمراً في أرض مذلته (تك 41 : 51 – 52).
لم يعلم يوسف في حينه أن الله كان يعده لكي ينقذ كل بيت أبيه من موت الجوع بل الجوع الذي كاد يهدد كل الأرض، وحينما يدرك يوسف قصد العناية الإلهية يقف الآن منشداً نشيد النصرة وتسبحة الحمد لله الذي اختاره ورعاه وحول الشر في نظر يوسف إلى خيراً:
فلولا بيع إخوته له ما وصل إلى مصر،
ولولا إفتراء إمرأة فوطيفار ما دخل السجن،
ولولا السجن ما تقابل مع رئيس السقاه وفسر حلمه،
ولولا رئيس السقاه ما أخبر فرعون بيوسف،
ولولا حلم فرعون ما جلس يوسف على العرش .
إنها سلسلة متشابكة الحلقات، رتبت حلقاتها بعناية إلهية فائقة. إن وصول يوسف إلى هذا المكان يرجع إلى إخوته الحاقدين عليه ، هم قصدوا به موتاً أما الرب فقصد به حياه لشعبه (مخلص العالم) فكم ينبغي أن يشكرهم ويتناسى إساءاتهم لذلك صرخ من أعماقه بعد أن كشفت له النعمة الخطة الإلهية لحياته: هل أنا مكان الله أنتم قصدتم لي شراً، أما الله فقصد بي خيراً لكي يفعل كما اليوم ليحيى شعباً كثيراً (تك 50 : 19).
الآن وضعت الفأس على أصل الشجرة ، وكشف المحجوب وتباينت المقاصد الإلهية:
لقد بيع يوسف عبداً وعاش غربته ألماً لكي يحيى شعباً كثيراً، كما كانت بهجته وعمق فرحته حينما حصد ثمرة تألمه !
وهكذا تعمل الأمور معاً للخير ولخير الإنسان مهما بدا من شر وضيق وإضطهاد.. إنها العناية الإلهية.
يوسف وإخوته في أرض مصر:
في دوثان كان الخير مهزوماً، وفي مصر كان الشر مقهوراً.
تآمروا عليه من بعيد ، أما هو فأشفق عليهم حين رآهم.
عروه من قميصه، أما هو فسترهم بتسامحه وحبه .
تركوه جوعاناً ، أما هو فأطعمهم من مخازن الله.
أرادوا قتله ، أما هو فأراد لهم حياة.
باعوه بعشرين من الفضة ، أما هو فرد فئة كل واحد إلى عدله.
لما وجدوه بكوا على أنفسهم ندماً، أما هو فبكى عليهم حباً وقبلهم.
فقدوه وهو في السابعة عشر من عمره ، ووجدوه وهو في السابعة والثلاثين من عمره.
قالوا ليعقوب يوسف مات ، أما العناية الإلهية فقالت : لا بل حيّ هو.
في أرض مصر : إشتد الجوع وجاءت كل الأرض إلى مصر ، إلى يوسف لتشتري قمحاً "لأن الجوع كان شديداً في كل الأرض" (تك 41: 57) وقال يعقوب لبنيه لماذا تنظرون بعضكم إلى بعض. إني سمعت أنه يوجد قمح في مصر.. إنزلوا إلى هناك واشتروا لنا من هناك لنحيا ولا نموت (تك 42 : 1 – 3) . ولم يكن يعلم يعقوب أن إبنه الصغير هو الذي سينقذه وينقذ أولاده من موت الجوع.. ولم يكن يعلم يعقوب أنه لا تستطيع قوة في الوجود أي كانت أن تضره أو تنزع فلذة قلبه بعيداً عنه بدون سماح من الله .. لم يكن يعلم أن العناية الإلهية ترافقه وترافق وليده.
فمهما حاولت اليد الأثمة أن تنزع إبنه من حضنه فلن تستطيع.. حتى ولو نجحت لفترة قصيرة ظن فيها أن كل شيء قد نسىّ .. ولم يكن يعلم إخوة يوسف أن الحق باق وأنه سيظهر حتى لو أخفى إلى حين، وسيكلل الصابرون ويتوج الأمناء .. إنها مفاجئة الأجيال بل عبرة الأجيال بل درس عميق في الإيمان.
أتى إخوة يوسف تاركين أخاهم بنيامين ونزلوا إلى أرض مصر ، ولم يكن في حسبانهم أو فكرهم أن دم التيس الكاذب الذي غسلوا قميص أخيهم فيه سيفضح كذبهم ويكشف قسوة وغيرة قلوبهم ، معلناً أن الوحش الردئ الذي إفترس أخاهم هم أنفسهم . وأن ذاك الوحش لم يفترس يوسف بل افترسهم هم.. ولا بد أن يمزق يعقوب ثيابه ، ويضع مسحاً على حقويه ، نائحاً لا على يوسف بل عليهم ، أولئك الذين تراجعت الرحمة من قلوبهم (تك 37 : 32).
في نفس الطريق الذي سلكه أخوهم عبداً إلى مصر سلكوه هم أيضاً كم كانت فضيحتهم وكم تكون آلامهم ، وما نظرة يعقوب لهم بل ما هي أحاسيسهم ؟ ذهبوا ليبتاعوا قمحاً وحينما تواجهوا مع أخيهم ودون أن يعرفوه سجدوا له بوجوههم على الأرض (تك 42: 6) لقد تحول الأحرار إلى عبيد وفك العبد فصار سيداً .
وهكذا فعلوا دون أن يعلموا ما أمرت به السماء يوم أن قص عليهم حلمه ، وانتهره أبوه وقال له " ما هذا الحلم الذي حلمت ، هل نأتي أنا وأمك وإخوتك لنسجد لك إلى الأرض (تك 37 : 10) وقالوا بعضهم لبعض هوذا صاحب الأحلام قادم.
سجدوا له طالبين رضاه متوسلين إليه أن ينقذهم من موت آت صارخين .. عبيدك جاءوا ليشتروا طعاماً .. ليس عبيدك .. جواسيس (تك 42 :10) ورجعوا إلى أنفسهم وقالوا بعضهم إلى بعض حقاً إننا مذنبون إلى أخينا الذي رأينا ضيقة نفسه ، لما استرحنا ولم نسمع ، لذلك جاءت علينا هذه الضيقة، وهم لم يعلموا أن يوسف فاهم .. فتحول عنهم وبكى (تك 42: 24).
سجدوا بوجوههم .. وأحسوا بذنبهم ولم يعلموا أن أخاهم في وسطهم عجباً !! ظنوا أن قافلة الإسماعيليين ستخلصهم من أخيهم وتريح داخلهم ولكن هيهات هيهات ، لا دب ولا وحش ولا بئر تستطيع أن تضر النفس التي في يد الله مسلمة أمرها ، لا بد وأن يتحقق المكتوب ، ولا بد أن توافق السماء قبل الأرض، فحياتنا في يد إلهنا ومهما حدث وظهر الظلم مسيطراً فلا بد له من قاهر ، إن صوت المعمدان سيظل صارخاً حتى لو فارق الجسد.
أجل ثم أجل .. لقد تواجه يوسف مع إخوته معلناً وكاشفاً ومؤكداً عناية الله بأولاده ، ومهما كان الشر ظاهراً إلا أن باطنه خيراً لاولاد الله ، لذا صرخ يوسف وأخفق صوته بالبكاء قائلاً لأخوته :
أنا يوسف أحي أبي بعد؟! (تك 45: 3)
لقد أحس يوسف بحب الرب وعنايته وحفظه له ، بعد أن رأى اليد الإلهية وهي تقود مسيرة حياته وتقيس خطواته قال لإخوته: والآن لا تتأسفوا ولا تغتاظوا لأنكم بعتموني إلى هنا ، لأنه لإستيفاء حياة أرسلني الله قدامكم .. فقد أرسلني الله قدامكم ليجعل لكم بقية في الأرض وليستبقي لكم نجاه عظيمة ، فالآن ليس أنتم أرسلتموني إلى هنا بل الله ، وهو قد جعلني أباً لفرعون وسيداً لكل بيته ، ومتسلطاً على كل أرض مصر .. فصعدوا من مصر وجاءوا إلى أرض كنعان إلى يعقوب أبيهم وأخبروه قائلين يوسف حي بعد (تك 45: 26).
وهكذا الذين حملوا بشارة قتل يوسف إلى يعقوب ، هم الذين حملوا بشارة حياة يوسف ليعقوب.
لم ينقص يوسف مقدار ذرة واحدة، أمام غدرهم وإضطهادهم ومؤامراتهم.
الذين رفضوا له السجود بإرادتهم، سجدوا له دون أن يدروا . كانوا متأهلين لقتله، والآن طلبوا أكثر من مرة الصفح عما إرتكبوه ضده. والذين ظنوا أن الكذب سيغطيهم، كشف عورتهم وخزيهم.
وبقي يوسف كما هو يوسف مؤكداً كل يوم أن يوسف حي لم يمت .. لأن الساقطين تحت الظلم لا تصيبهم جراحات ، إنما يرجع الآذى على رأس مدبري المكايد والمؤامرات!!!
وهكذا صدق أشعياء النبي حينما قال : "قولوا لخائفي القلوب، تشددوا لا تخافوا ، هوذا إلهكم .. هو يأتي ويخلصكم (أش 35: 4).