عندما يموت الإنسان يكون أمامه ثلاثة حالات، وهو يحتاج لواحدة منهم: الذهاب للسماء مباشرة، الذهاب إلى الجهنم، والذهاب إلى المطهر. والمطهر هو حالة الأشخاص الذين أنتقلوا وهم في حالة النعمة، ولكن ليسوا كاملين في المحبة، ولذا متى تم تنقية قلبهم ومحبتهم بمرورهم بحالة المطهر، يمكنهم التمتع بالحضور والتواجد أمام الله. فالمطهر يتعلق باشخاص نالوا نعمة الخلاص ويعيشون في محبة الله، ولكن ليس بطريقة كاملة
المطهر كعقيدة في الكنيسة الكاثوليكية جاء في مجمع ليون الثاني( 1274):«إن مات المؤمنون التائبون حقا في المحبة، قبل أن يكفِّروا بثمار لائقة بالتوبة، عما ارتكبوه أو أهملوه، فستطهَّر نفوسهم بعد الموت بعقوبات مُطهِّرة. هذا وأن تشفعات المؤمنين الأحياء ستفيدهم للتخفيف عن هذه العقوبات، وهي ذبيحة القداس والصلوات والصدقات وسائر أعمال التقوى التي اعتاد المؤمنون أن يقوموا بها من أجل سائر المؤمنين، بحسب ما أنشأته الكنيسة». وجاء في كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية الآتي:«الّذين يموتون في نعمة الله وصداقته، ولم يتطهروا بعد تطهيراً كاملاً، وإن كانوا على ثقةٍ من خلاصهم الأبدي، يخضعون من بعد موتهم لتطهير، يحصلون به على القداسة الضرورية لدخول فرح السماء». تاريخها تقول الكنيسة الكاثوليكية بأن هذا التعبير وجد وحُدّد كعقيدة إيمانية في مجامع محلية (456، 464، 693، 840، 983، 998)، وأخيراً تحددت هذه العقيدة في مجامع مسكونية ( وحدها الكنيسة الكاثوليكية تعترف بكون تلك المجامع " مسكونية " لأنها انعقدت بعد الإنشقاق الكبير عام 1054 )، تلزم جميع المسيحيين الكاثوليك بالاعتراف بها شرقاً وغرباً. هذه العقيدة حددها كلاً من مجمع "لا تران المسكوني 1215" ومجمع ليون المسكوني 1274" ومجمع فلورنسا المسكوني 1431" ومجمع ترينتيني المسكوني "1545 – 1563" وكان نص العقيدة كالأتي : "أن الذين يخرجون من هذه الحياة وهم نادمون حقيقة وفي محبة الله، ولكن قبل أن يعرضوا عن خطاياهم وإهمالاتهم بأعمال توبة وافية، تتطهر نفوسهم بعد الموت بعقوبة مطهرة" وقدأيدها تأييداً كاملاً آخر مجمع مسكوني "المجمع الفاتيكاني الثاني المسكوني 1962 – 1965" بقوله عن هذه العقيدة "إن هذا المجمع المقدس يتقبل بعمق إيمان أجدادنا المبجل، الخاص بهذه الشركة الحيوية القائمة بيننا وبين أخواتنا الذين وصلوا إلى المجد السماوي، أو الذين لازالوا يتطهرون بعد موتهم" أساس العقيدة الكتابي ترى الكنيسة الكاثوليكية أن لعقيدة المطهر التي أعلنتها من طرف واحد جذور كتابية، فالكتاب المقدس بحسب رأيها مملوء بالشواهد والآيات التي تتحدث عن المطهر سواء مباشرة أو بالاستنتاج ، وسنورد منها بعضاً لنرى على ماذا اعتمدت الكنيسة الكاثوليكية في عقيدتها: - سفر المكابيين الثاني 38:12-45 : " وجمع يهوذا جيشه وسار به إلى مدينة عدلاَّم، وفي اليوم السَّابع تطهروا على ما جرت العادة وقضوا السبت هناك. وفي اليوم التالي أقبل يهوذا ومن معه ليحملوا، كما هو مفروض، جثث القتلى ويدفنوهم مع أقربائهم في مقابر آبائهم. فوجدوا تحت ثياب كلَّ جثة تماثيل صغيرةً من أصنام آلهة يمنياً مما تُحرمه الشريعة على اليهود. فتبين للجميع أن ذلك كان سبب سقوطهم قتلى. فرفعوا كُلُّهم آيات الحمد إلى الرب الديَّان العادل الذي يكشف الخفايا. وأخذوا يصلون ويبتهلون إليه أن يمحوا تلك الخطيئة، وبعد ذلك بدأ يهوذا النبيل يعظ الحاضرين أن يبتعدوا عن الخطايا لأنهم رأوا بعيونهم نتيجتها على الذين قتلوا ثم جمع من كل واحدٍ تبرعاًـ فبلغ مجموع التبرعات ألفي درهم من الفضة، فأرسلها إلى أُورشليم ليقدم بها ذبيحة عن الخطيئة، وكان ذلك خير عملٍ وأتقاه لإيمانه بقيامة الموتى. هؤلاء رَجاؤُهُ بقيامة الذين قتلوا لكانت صلاتُهُ من أجلهم باطلة. ولو لم يعتبر أنَّ الذين ماتوا أتقياء ينالون جزاءً حسناً، وهو رأي مُقدسٌ وتقيُ، لهذا قدَّم الكفارة عن الموتى ليغفر الرب لهم خطاياهم". - بنو إسرائيل والملوك والانبياء اعتادوا أن يصوموا ويصلوا من أجل الراقدين وكان لهذه العبادة اعتبار خاص عندهم، فاهل يابيش جلعاد صاموا"وصلوا طبعاً" سبعة أيام على شاول وأبنيه (1صم 31:31 أي 12:10)، وكما صام داود ورجاله ( 2صم 21:1 ) لما مات أبتير رئيس جيش إسرائيل ( 2صم 35:3 ) . - النبي دانيال 12: 10 : "كثيرٌ من الناس يتنقون ويتطهرون ويُمحصون، والأشرار يفعلون الشَّرَّ ولا أحد منهم يفهم،، أمَّا العُقلاء فيفهمون" . - متى 31:12-32 : "من أجل هذا أقول لكم إن كل خطيئة وتجديف يغفر للناس وأما التجديف على الروح القدس فلا يغفر. ومن قال كلمة على بني البشر يغفر له وأما من قال على الروح القدس فلا يغفر له لا في هذا الدهر ولا في الأتي" .ويعلق القديس غريغوريوس الكبير على هذه الآية فيقول : "أنه يحمل على الاعتقاد بأن هناك خطايا تغفر في هذه الدنيا وخطايا تغفر في العالم الآخر " - كورنثوس الأولى 10:3-15 : "أنا بحسب نعمة الله التي أوتيتها كبناء حكيم وضعت الأساس وآخر يبني عليه فلينظر كل أحد كيف يبني عليه ، إذ لا يستطيع أحد أن يضع أساساً غير الموضوع وهو يسوع المسيح. فإن كان أحد يبني على هذا الأساس ذهباًَ أو فضة أو حجارة ثمينة أو خشباً أو حشيشاً أو تبناً. فإن عمل كل واحد سيكون بيناً لأن يوم الرب سيظهره إذ يعلن بالنار وستمتحن النار عمل كل واحد ما هو. فمن يبقى عمله الذي بناه على الأساس فسينال أجره. ومن احترق عمله فسيخسر إلا أنه سيخلص ولكن كما يخلص من يمر في النار" ، وأغلب المفسرين الكاثوليك يرون في امتحان النار هذا تطهيراً عابراً. - فيلبي 10:2 : " لكن تجثوا باسم يسوع كل ركبة ما في السموات وعلى الأرض وتحت الأرض" . ويقول المفسرون الكاثوليك : ليس معنى هذا أن الهالكون سيسجدون له وإلا لم تعد هناك مشكلة . ولكن الذين هم تحت الأرض، هم النفوس المنتقلة إلى حين، في ذلك المكان الواقع في باطن الأرض، والذي أعده الله لتطهير المنتقلون من عالمنا إلى العالم الآخر ، ولا تخلوا نفوسهم من بعض الشوائب والعيوب، التي تحرمها مؤقتاً من دخول السماء . المطهر لدى آباء الكنيسة - أوريجانوس (القرن الثالث ) يقول "إن جميع أولئك الناس الذين غادروا هذه الحياة يحتفظون بمحبتهم لأولئك الذين تركوهم تحت، ويكونون مشغولي البال على سلامتهم، ويساعدونهم بصلواتهم وتشفعاتهم إلى الله" ( تفسير رسالة رومية ، تفسير نشيد الأناشيد ). - القديس كبريانوس أسقف قرطاجة : يقول بأن التائبين الذين ماتوا بعد أن غفرت خطاياهم، يجب عليهم أن يؤدوا في الحياة الأخرى ما تبقى عليهم من التعويض المفروض، بينما الشهادة هي بمثابة تعويض كامل وواف : " ليس بيان غسل النفس من الخطايا عذاب أليم طويل والتطهير بالنار وغسل النفس من الخطايا بشهادة الدم " - أوغسطينوس ( القرن الرابع ) " إنه لا ينبغي أن نرتاب أبداً في أن صلوات الكنيسة المقدسة والذبيحة الإلهية، والصداقات تسعف المنتقلين الذين تقدم لأجلهم، لكي يكسر لهم الرب رحمته، غير ناظر إلى ما استحقته خطاياهم هذا ما سلمه إلينا الأباء وتحفظه الكنيسة عموماً ". - القديس غريغوريوس الثاولوغس يقول : "إن المؤمنين يعمدن بناره الثانية أي العماد الأخير الذي ليس هو فقط أقسى وأشد بل أنه أطول مدة إذ أنه يأكل في الإنسان ما يصادفه من المادة الكثيفة الشبيهة بالحديد ويزيل الخطايا الخفية ". مشبهاً المطهر بالعماد الثاني ، ليس بالماء ولكن بالنار، وبأنه أشد وأطول من العماد الأول لأنه يأكل ويزيل الخطايا الموجودة في المؤمن ليتطهر ويتنقى ويصبح مستحقاً لمعاينة مجد الله. - القديس يوحنا فم الذهب ( القرن الخامس ) يقول " ليس من العبث أن الرسل أحلوا وجوب مباشرة الأسرار الرهيبة تذكاراً للذين انتقلوا من هذه الحياة محل الشريعة " ( ميمر 3 في الرسالة إلى أهل فيلبي ) ما الذي يحدث في المطهر ؟ هناك فائدتين اثنتين بحسب اللاهوت الكاثوليكي : - التطهير من الأنانية التي عاقت المشاركة في الخلاص : فالله محبة خالصة، وللاتحاد معه يجب أن نتنقى من كل الشوائب ونكون محبة كاملة. - النمو في الاشتياق للمسيح : فهو ليس عقاب بل ألم يكابده الإنسان طوعاً حين تنكشف حالته المزرية أمام قداسة الله الساطعة، فينتج هذا الإرتياع ندامة شديدة تريد التعويض عن حقارة الماضي. قبل الانتقال للحديث عن موقف الكنيسة الأرثوذكسية من المطهر كعقيدة أساسية في الإيمان الكاثوليكي، لا بد وأن نتوقف عند أمرين هامين: - ماذا نتج عن إعلان عقيدة المطهر ؟ - هل لعقيدة المطهر جذور في الديانات القديمة ؟ نتائج إعلان عقيدة المطهر - كانت صكوك الغفران البابوية الشهيرة إحدى أهم النتائج المباشرة لعقيدة المطهر في الفكر اللاهوتي الكاثوليكي. إعتمدت فكرة صكوك الغفران على عقدتين فى الكنيسة الكاثوليكية، وهما عقيدة فضائل القديسين وعقيدة المطهر (عقيدة فضائل القديسين مختصرها أن القديسين لديهم فائض من الأعمال الصالحة خلال حياتهم، تكفيهم ويزيد، وللكنيسة الحق بالتصرف بتلك الزوائد وتوزيعها على المحتاجين مقابل أعمال وخدمات جليلة يقدمونها للكنيسة ). بدأت فكرة صكوك الغفران مع الحروب الصليبية ، حيث نادى رجال الدين بأن الجندى الذى يعترف ويتوب ويتقدم للحرب مخاطراً بحياته يستطيع أن يحصل على صك غفران كتابة وبموجب هذا الصك يعفى من عذاب المطهر. ومع الأيام بدأت هذه الصكوك تُباع، وأصبحت تجارة رابحة شائعة يلجأ أليها الباباوات كلما أحتاجوا إلى المال، كما كانت الصكوك متنوعة ومختلفة فكل صك تتناسب قيمته مع مقدار الخطية المطلوب غفرانها. وفى سنة 1513م اعتلى البابا ليون العاشر سدّة البابوية، وكان من عائلة غنية قد اعتاد على حياة الرفاهية كما كان يحب الفن والبناء، فعزم على بعض الإصلاحات بكاتدرائية بطرس الرسول ولم يجد المال الكافي، لذلك أصدر فى 31 آذار مارس 1515م قرار بيع صكوك الغفران كاملة التي تمنح الإنسان إعفاءاً كاملاً من عقوبة المطهر وليس فقط لفترة محددة. اعترض على هذا معظم الولايات الألمانية ولكن البابا وجد في ألبرت رئيس أساقفة Mainz الذي وصل إلى رئاسة ثلاث إبرشيات معاً بالرشوة رغم أن عمره لم يتجاوز الخامسة والعشرين، وتم الاتفاق بين البابا و ألبرت على بيع صكوك الغفران فى أبرشياته على أن تقسم الحصيلة بينهما. اختار ألبرت كاهناً يدعى يوحنا ليقوم بحملة دعاية كبيرة لبيع هذه الصكوك، وهو صاحب العبارة الشهيرة التى سجلها التاريخ " فى نفس اللحظة التى ترن فيها نقودكم فى الصندوق تخرج النفس المطهرية حرة منطلقة إلى السماء ". - من نتائج هذه العقيدة أيضاً أنها وجدت نفسها مضطرة إلى استعمال صور ورموز لتتكلم عن اختبار يتم خارج حدود هذه الحياة ، ويتعلّق بالحياة بالله . فكانت صور النار والمكان والزمان للكلام على التطهير الضروري قبل دخول السعادة الأبديّة . هذا ما قاد اللاهوت إلى الوقوع أحيانًا في بعض التفاسير الشيئيّة لهذه الصور والتصاوير . فغلب الاهتمام بتقديم وصف إخباري لنهاية الأزمنة على حساب واقع الحياة المسيحيّة. - مؤخراً في الأعوام القليلة الماضية ناقش مجمع العقيدة والإيمان إمكانية تعديل أو إلغاء فكرة المطهر بسبب تزايد عدد العائلات التي يزداد القلق لديها بشأن أطفالها المتوفين دون تعميد أو في إعمار صغيرة، حيث أنهم أبرياء لم يرتكبوا أي أخطاء. حيث تضيف فكرة بقاء نفوسهم في المطهر المزيد من المعاناة لذويهم. هل لعقيدة المطهر جذور في الديانات القديمة ؟ نعم ، فكثير من الحضارات والشعوب لديها فكراً ما يعبر عن المطهر بطريقة أو بأخري. المصريين : كان عندهم أوزوريس الذي يزين أعمال الناس ويدفع كلاً منهم إلى الجزاء العادل. الفرس : جسر الحساب الذي عبر هاوية الجحيم بين الأرض والسماء ويتسع للنفوس الصالحة ويضيق للنفوس الشريرة حتى يصبح أدق من الشعرة وأحدّ من الموس وتعذب به الأرواح من مقامات متعددة حتى تتطهر من آثامها وتصبح جديرة بالصعود إلى السماء. وعند اليونان: الرواقيون في القرن الثالث قبل الميلاد ينادون بضرورة تطهر النفس من الخطايا بعد الموت حتى تنال السعادة في الحياة الأخرى. هذا التشابه مع بعض اعتقادات الشعوب القديمة لا يعيب عقيدة المطهر كما أنه لا يغنيها، فكثير من العقائد المسيحية كالثالوث والفداء والقيامة تتشابه ظاهرياً وبعض معتقدات الشعوب القديمة، ولكنها تختلف عنها في المسيحية بالكامل. موقف الكنيسة الأرثوذكسية الرافض لهذه العقيدة الكنيسة الأرثوذكسية لا تقبل بعقيدة المطهر التي أعلنها الفاتيكان عبر مجامعه التالية للإنشقاق بين روما والبطريركيات الشرقية عام 1054 ، وترفض بشكل قاطع اعتمادها " كعقيدة مُلزٍمة " ، حيث أنها لا تجد الأدلة الكافية والواضحة عليها في التقليد الرسولي والآبائي، وهي من أسرار الله الغامضة عن البشر والتي لا يجوز تصورها وتصويرها بالشكل المادي الذي هي عليه هذه العقيدة. ترى الكنيسة الأرثوذكسية أن موضوع " المطهر " هو من إفرازات - نتائج - اللاهوت السكولاستيكي، الذي يسعى لإيجاد معانٍ لأسرار الإيمان عبر المنطق والعقل، وهذا ما يعترف به الأب الدكتور أغسطينوس موريس من الكنيسة القبطية الكاثوليكية. في المنشور العقائدي للبابا بنديكتوس الثاني عشر 1336 جاء " إن نفوس الأبرار الطاهرة تماماً تذهب إلى السماء فوراً بعد موتها وذلك قبل قيامة الجسد والدينونة العامة ... بينما النفوس التي هي في حالة الخطيئة المميتة تذهب حالاً بعد موتها إلى الجحيم حيث تقاسي عذاباً أبدياً " ، وجاء في نصوص مجمع تريدنت " إن الذين يخرجون من هذه الحياة وهم نادمون حقاً وفي محبة الله، ولكن قبل أن يكفّروا عن خطاياهم في أعمال توبة كاملة، تتطهّر نفوسهم بعد الموت بعقوبات مطهّرة ". وجاء في مجمعي ليون وفلورنسا " إن التائبين الذين ماتوا بعد أن غُفِرت خطاياهم يجب عليهم أن يؤدّوا في الحياة الأخرى ما تبقى عليهم من التعويض المفروض ". لا سبيل لمعرفة مدة التكفير هذه، فلكلّ نفسِ حسب ما ارتكبت، ويرى مجمع تريدنت أنه " في المطهر تُغاث النفوس السجينة بإسعافات المؤمنين ولا سيما ذبيحة المذبح الطاهرة والصلوات والصدقات وسائر أعمال التقوى التي درج المؤمنون على تقديمها بعضهم لأجل بعض وفق قوانين الكنيسة ". نرى فيما سبق أن المعذبين في المطهر ليسوا هم الأبرار ولا الأشرار، بل هم المؤمنون التائبون والنادمون على خطاياهم إلا انهم لم يكفّروا عن خطاياهم بالشكل الكافي في هذه الحياة. كما ترى الكنيسة الأرثوذكسية أن اللاهوت الكاثوليكي يخلط كثيراً بين فاعلية الصلاة لأجل الموتى وبين وجود أنفسهم في " السجن - المطهر - حتى يوفوا الفلس الأخير " ( حسب تفسيرهم لمتى 5: 25-26 ). وهنا طرحت الكنيسة الأرثوذكسية السؤال الحقّ : لماذا قدم الرب ذبيحته إذاً ؟ أليست كفارةً عن خطايانا ؟ يقول القديس يوحنا الرسول في رسالته الجامعة الأولى " إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار، وهو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضاً " ( 1يو2: 1-2 ). ويتابع الرسول الحبيب الذي اتكأ على صدر المسيح يوم العشاء الأخير قائلاً " إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم " ( 1 يو1: 9 )، ويقول القديس بولس الرسول " متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله " ( رو3: 24 ). وآيات أخرى لا حصر لها تؤكد أن الرب يسوع هو كفارة لخطايانا وليس مطلوب منا غير التوبة الحقيقية وهجر حياة الخطيئة وقبول تلك النعمة المجانية المعطاة لنا بيسوع المسيح ربنا. كما يتضح من آيات يوحنا الإنجيلي أن التطهير يتم بمجرد التوبة الحقيقية والإعتراف بذبيحة المسيح كفارة تامة غير منقوصة لخطايانا. ترى الكنيسة الأرثوذكسية في مثل " الابن الشاطر " خير توضيح لرأيها الرافض لمنطق المطهر، فهذا الابن الذي عاد تائباً بعد حياة طويلة في ظلام الخطيئة ، وصرخ مستغفراً أبيه " يا أبتِ أخطأت إلى السماء وأمامك ولست مستحقاً أن أدعى لك ابناً فاجعلني كأحد أجرائكَ " ( لو15: 11- 32 ). فبحسب عقيدة المطهر الكاثوليكية كان يتوجب عليه ليس فقط أن يتوب ويندم، بل وأن يكفّر عن خطاياه ويعوّض عن تلك الأعمال غير الصالحة والسنين المظلمة التي أهدرها. إلا أن أباه قبله بفرح - لا بل وسارع إليه يضمه ويقبّله مسروراً بعودته - وأعطاه الحلّة الأولى والخاتم وذبح له العجل المسمّن ولم يعاتبه بكلمة قط. رسالة المحبة التي بعد القيامة هي " هكذا هو مكتوب وهكذا كان ينبغي أن يتألم المسيح ويقوم من الأموات في اليوم الثالث وأن يُكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم مبتدئاً من أورشليم " ( لو24: 46 )، هو على الصليب حل خطايانا وكفّر عنها نهائياً. الرب حمل خطايانا، وفداؤه ليس ناقصاً ، لذلك لا تقبل الكنيسة الأرثوذكسية مجرد فكرة وجود نار أو مكان لعقاب " التائبين " أي الذين قبلوا المسيح فادياً ومخلصاً. برأيها العذاب لا يطهّر ولا ينقي، الذي يطهر وينقي هي محبة الله الكاملة في المسيح يسوع. كما أن الخطيئة التي تجرح محبة الله لا يمكن لعذابات محدودة المدة أن تفي حب الله غير المحدود، وبالتالي لا يقبل لا العقل ولا المنطق فكرة المطهر، بل وحده دم الرب يسوع هو الذي داوى هذا الجرح بالمحبة المطلقة " وأي حب أعظم من أن يبذل أحد نفسه فداء عن أحبائه ". فإن كان دم المسيح غير كافٍ للتكفير والتبرير والتنقية والتطهير فالويل لما لأننا هلكنا جميعاً. يمس المطهر سر الكهنوت المقدس والسلطان المعطى بواسطته من خلال الرسل الأطهار على حل الخطايا وإمساكها، فأي فائدة تبقى من سر الإعتراف والتوبة إن كان " مع وقف التنفيذ " ، وقد قال الرب " من غفرتم خطاياهم غفرت ومن امسكتم خطاياهم أمسكت " ، الرب لم يقل " من غفرتم خطاياهم فإنها سوف تغفر لاحقاً "، كما لا يعني كلام الرب ما يروج له بعض دعاة البروتستنتية من أن الخطايا قد غُفرت سلفاً وبالتالي صار عمل الكهنوت مجرد " تمثيلية لا فائدة منها ". جاء في المزمور 32 " طوبى للذي غُفر إثمه وسترت خطيتة طوبى للأنسان الذي لا يحسب له الرب خطية ". فما دام الرب لم يعد يذكر خطيئة هذا التائب ولا يحسبها له فهل يعود هناك ضرورة للمطهر؟ يرى الكاثوليك في الآية الواردة في سفر الرؤيا " لا يدخل السماء دنس ولا ما يصنع رجساً وكذباً " (رؤ21: 27) ما يدعم فكرهم حول المطهر. وترى الكنيسة الأرثوذكسية أن التائبين والمعترفين بخطاياهم والمؤمنين بذبيحة الصليب قرباناً عن خطاياهم، هم أنقياء ومطهّرون بدم المسيح الزكي المسفوك لأجلهم ولمغفرة خطاياهم، ويقول سفر الرؤيا نفسه متابعاً في نفس الآية " ولن يدخلها شيء دنس ولا ما يصنع رجسا وكذبا إلا المكتوبين في سفر حياة الحمل" ، ومن هم هؤلاء المكتوبون في سفر الحياة إلا المؤمنين باسمه التائبين عن خطاياهم والمعترفين به رباً ومخلصاً وفادياً ؟ هل يقتضي العدل الإلهي أن يدفع ثمن الخطيئة مرتين: مرة على الصليب من قبل الله نفسه ومرة في المطهر ؟ وهل يقبل المنطق البشري أن يكون هناك " متمم ومكمل " لعمل الله الفادي نفسه الذي به محا خطايانا ؟ وإذا كان العدل الإلهي يعاقب على الأخطاء الغير مقصودة والسهوات والهفوات فنصرخ إذاً من هو الذي يثبت ؟ كما يقول المزمور " على السهوات والهفوات وخطايا الجهل ؟ إذا كان كذلك فلا فائدة فكما نقول فى المزمور " إن كنت تراقب الآثام يا رب يا سيد فمن يقف؟ لأن عندك المغفرة"( مز 130: 3-4 ) . ويطرح المطهر تساؤلات آخرى لا يجد لها المفسرون الكاثوليك تفسيراً متماسكاً، وهو أن الرب أعطى اللص المصلوب معه ان يكون معه في الفردوس منذ تلك اللحظة التي تاب فيها عن خطاياه واعترف بالمسيح رباً ومخلصاً . الرب لم يحدثه عن المطهر الكفيل بتنقية نفسه من الشرور والآثام التي ارتكبها قبل انتقاله ليكون معه، فلو كانت آلام الصلب المحدودة الزمن بعدة ساعات أو أيام كافية لتنقية اللص من حياة مليئة بالشرور والإجرام ، أليست آلام الأمراض إذاً كفيلة بتنقية حياة تائبين سقطوا في خطاياهم نتيجة لضعفهم وسهوتهم وتذبذب إرادتهم ؟ وهل يحتاجون للمطهر ذو المدة الزمنية غير المحددة؟ وهل يجب أن تقاس مدة التطهير بالأزمنة البشرية وبالأوقات ( 20 سنة، 50 سنة ، 100 سنة ... إلخ )؟ وأخيراً يبقى التساؤل الأخير : هل من العدل والمنطق أن تتطهّر النفس دون الجسد؟ ففي القيامة العامة ستقوم النفس والجسد وسيتحدان كليهما معاً ليدخلا إلى الفرح الأبدي أو العذاب الأبدي، فهل يصحّ أن تتحد تلك النفس التي تطهرت بنار المطهر مع الجسد الذي لم يتطهّر؟ وهل يصبح ذلك الكائن عندئذٍ مستحقاً أن يقترب ويعاين مجد الله ؟ لأجل هذا ترفض الكنيسة الأرثوذكسية عقيدة المطهر بكاملها لأنها تعارض وتنفي عقيدة أخرى هي " عقيدة الفداء " الذي قام به كلمة الله المتجسد على الصليب، والذي وحده " يقدر ان يخلّص ايضا الى التمام الذين يتقدمون به الى الله اذ هو حيّ في كل حين ليشفع فيهم " ( عبر7: 25 ) والذي " ليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة الى الاقداس فوجد فداء ابديا. لانه ان كان دم ثيران وتيوس ورماد عجلة مرشوش على المنجسين يقدس الى طهارة الجسد، فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروح ازلي قدم نفسه للّه بلا عيب يطهر ضمائركم من اعمال ميتة لتخدموا الله الحي " ( عبر 9: 12-14 ). ولأن الكتاب ينص صريحاً على عدم وجود مكان للتعذيب او التطهير " وضع للناس ان يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة " ( عبر 9: 27 ). الكنيسة الكاثوليكية تراجع نفسها حسناً تفعل بذلك، وحسناً أن تراجع نفسها في الحال الذي وصلت إليه من جراء إعلان عقائد لا تغني ولا تفيد وهي محفوظة في علم الله الذي وحده العالم بكل شيء، ولا يهمنا نحن سوى أن نؤمن بما كلمنا به ونحيا إيماننا هذا. يقول الأب الياس جانجي في مقال عن المطهر في فكر أوريجانوس ما يلي " ... يجب أولاً فهم النار بمعنى مجازي كما لا يجب تصور المطهر كمكان بل كحدث يتحقق في الإنسان ذاته. من هنا يجب التخلي عن فكرة النار والزمان والمكان ، والتمسك فقط بتصور التطهير الأساسي: ضرورة تطهير الإنسان في سبيل رؤية الله. وأمّا نار المطهر التي تحرق هي قبل كل شيء نار المحبّة الإلهيّة التي تلهب كل نفس يقترب منها . ومن ناحية أخرى فإن المطهر هو ألم في سبيل الاكتمال . ففي لقائه مع المسيح الديان والمليء بالحب في الوقت نفسه ، تنحل ترسبات الخطيئة في الإنسان ، وتتلاشى بقايا الأنانيّة . من هنا يجب تصور المطهر على أنّه ألم في سبيل الاكتمال ، ألمًا مطوبًا ، لأنّه يحرر ويكمل ، ألما مؤلمًا لأنّه يزيل بقايا الخطيئة التي أصبحت جزءًا من "الأنا" . ليس المطهر إذًا حدثًا محدّدًا يضاف إلى حدث الدينونة ، بل هو وقت من أوقاتها ، كما أن الدينونة هي دينونة ذاتيّة ، فيها يتحمّل الإنسان نتائج خياراته الأساسيّة في حياته . فالإنسان الذي لم يتمم نهائيًّا نموه على الأرض يكمّله في مرحلة ما بعد الموت ، لكي يصل إلى انفتاح كامل على الحب ، لأن ملكوت السماوات هو حب كامل . إذًا من لم يستطع أو من لم يحقق على الأرض قبل موته هذا الحب الكامل ، والأرجح أنه لم يستطع أي إنسان تحقيق ذلك ، يواصل بعد الموت تحقيقه " . نحن ننظر لهذه المراجعة الكاثوليكية بعين إيجابية ولكن الكنيسة الأرثوذكسية تبقى رافضة للفكرة من كونها تنتقص من كمال لاهوت الفداء والصليب، الأمر الذي بنظر الكنيسة الأرثوذكسية يبقى خارج أي نقاش، لأنه محسوم سلفاً .